وسائل التواصل الاجتماعي سيف ذو حدين
انهيار غير مسبوق للأخلاق وارتفاع رهيب في الجريمة

- 341

يشهد المجتمع خلال الأشهر القليلة الأخيرة، تحولا اجتماعيا خطيرا، يتمثل في انهيار تدريجي ومتصاعد للمنظومة الأخلاقية، التي كانت لعقود من الزمن، درعا واقيا للمجتمع ضد التفكك، والانحراف. هذا الانهيار لم يعد مقتصرا على سلوكات فردية معزولة، بل بات ينعكس، بشكل واضح، على الشارع اليومي؛ من خلال ارتفاع معدلات الجريمة، والاعتداءات، والسرقات، حتى في وضح النهار، وأمام أعين المارة؛ من سرقة الهواتف في الطرقات المزدحمة، إلى اعتداءات بالسلاح الأبيض في الأحياء السكنية، مرورا بالاحتيال، والابتزاز الإلكتروني. وكلها ظواهر تشير إلى تآكل القيم التي كانت تربط الأفراد ببعضهم البعض، لتضمحل حينها مفاهيم الأمانة، والاحترام، والغيرة على الجار، ومراعاة حرمات الناس.
الانهيار الأخلاقي الذي يشهده المجتمع اليوم، لا يمكن فصله عن جملة من التحولات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، وحتى الصحية التي عصفت بالبلاد خلال العقود الأخيرة. فالتراجع الكبير في دور الأسرة كحاضنة أولى للقيم، والانحسار الواضح لنفوذ المؤسسة التربوية، وتراجع الخطاب الديني المتوازن، يبدو أنها عوامل ساهمت في خلق فراغ قيميّ عميق، يضاف إلى ذلك تفشي البطالة منها المتعمدة؛ لرفض بعض الشباب العمل الشاق، وتدهور مستوى المعيشة، وتراجع القوى الشرائية، واتساع الهوة بين فئات المجتمع؛ ما خلق بيئة خصبة لتفشي الجريمة، والسلوكات العدوانية.
من جهة أخرى، لعبت وسائل الإعلام خاصة شبكات التواصل الاجتماعي، دورا مزدوجا؛ ففي الوقت الذي أتاحت مساحاتٍ للتعبير، ساهمت في نشر أنماط سلوكية غريبة عن المجتمع، وترويج مظاهر التمرد والانحراف، بل وتطبيع العنف في أذهان الناشئة، وهذا ما نشهده ونلتمسه اليوم من خلال ما يُنشر عبر تلك المنصات، التي تحولت، في فترة قصيرة، الى "عدوة الإنسان الملثمة بثوب التكنولوجيا".
وحول هذا الموضوع حدّثنا محمد لعزوني إمام مسجد، قائلا: " إن ما نراه اليوم هو ثمرة انفصال الناس عن ضميرهم الديني، ونتيجة غياب القدوة في البيت، والمدرسة، والمجتمع؛ فالأخلاق ليست كلمات تقال على المنابر فقط، بل يجب أن تجسَّد في سلوك الأفراد، بدءا من الأسرة إلى الدولة. وإذا غابت التربية عن القيم فلا نستغرب تفشي الجريمة، وانعدام المروءة".
ونبّه المتحدث الى أن تفشي القيم الفردانية والأنانية وراء التراجع في القيم، فالفرد أصبح يقدم مصلحته ولو كان بالدوس على مصالح وراحة المحيطين به، أو حتى التعدي عليها، وهذا ما يفسر تزايد الاعتداءات لأسباب تافهة حتى وإن كانت خلافا على موقف سيارة، أو سرقة هاتف نقال، أو نظرة عابرة، أو حتى سوء تفاهم بسيط. وأضاف: " إن العوامل الخطيرة التي ساهمت في هذا الانهيار الأخلاقي أيضا، التفكك الأسري الذي تشهده الأسرة الجزائرية، التي لم تعد نواتها وأساسها كالسابق، متماسكة، وصارمة في التربية، أو قائمة على الاحترام والتقدير؛ فالعائلة، اليوم، أصبح شغلها الشاغل البحث عن لقمة العيش، وتوفيرها، غائبين، بالمقابل، عن تربية الأطفال، تاركينهم فريسة خارجية سهلة التأثير، لتصبح التربية تمارَس من قبل الشارع أو الأنترنت، حيث تُصنع القدوات الزائفة، وتُغرس مفاهيم معكوسة، تافهة وغير نافعة عن الرجولة، والمروءة، والقوة، والنجاح وغيرها. وبات البعض لا يدرك الفرق بين الحلال والحرام، والممنوع والمسموح، بل تعدى هؤلاء على جميع القيم الدينية، والإنسانية كذلك.
وفي السياق نفسه، ترى المختصة الاجتماعية مروة محمودي، أن الأزمة أعمق مما تبدو عليه، قائلة: "نحن لا نعيش، فقط، أزمة أخلاق، بل أزمة مجتمعية بكاملها، فالشباب اليوم يعانون من فقدان الهوية، من التهميش، من البطالة، ومن انعدام الأمل في المستقبل، ليس بالتحديد واقع، لكن صورة نمطية رسمها البعض حتى قبل إكماله المدرسة الابتدائية؛ أي في مرحلة لم يسطّر المستقبل بعد، ليفضل حينها الشارع لإعطاء دروس في الحياة، وهذا يعود الى نوع من انعدام الرغبة. حين يفقد الإنسان معنى الانتماء والأمان يسهل عليه تبرير سلوكه الإجرامي، بل يعدُّه وسيلة للبقاء حتى وإن كان يدرك أنه خطأ، إلا أنه يقنع نفسه بعد فترة، بأن لا خيار لديه".
التطبيع مع العنف واستصغار الجرم
وتضيف المختصة أن مواقع التواصل الاجتماعي رغم ما توفره من فرص للتواصل والتعبير، فقد ساهمت في تعميق الفجوة القيمية؛ حيث بات التطبيع مع العنف، والسخرية من الضحية، واستصغار الجرم، أمرا شائعا.
و " ما يزيد الطين بلة "، تقول المختصة، هو ضعف الردع القانوني أو بالأحرى عدم فعالية العقوبات، حيث يشعر كثير من المواطنين أن القانون لا يحميهم، وأن المعتدي قد يخرج من السجن بعد فترة قصيرة، ليعود إلى ارتكاب جرائمه دون خوف من العقاب.
وأمام هذا المشهد دعت المختصة إلى رد الاعتبار للتربية الأخلاقية في المدارس، وتمكين الأسرة من أداء دورها التربوي، وتفعيل المساجد كمنابر حقيقية للإصلاح، وحوار الشباب. كما ألحّت على إصلاح الخطاب الإعلامي، والثقافي، الذي يغذّي، أحيانا، سلوكات خاطئة عن غير قصد.
وفي الأخير شددت المختصة على أهمية تنظيم أيام دراسية وإعلامية لتسليط الضوء على هذه المواضيع الحساسة، قائلة إن الحديث عن الأزمة الأخلاقية في الجزائر ليس ترفا فكريا، بل ضرورة وجودية؛ فدون أخلاق لا يمكن أيَّ مجتمع أن يصمد أمام التحديات، ولا أن يبني مستقبله دون أخلاق؛ فالأمر يستدعي وقفة صادقة قبل أن تتجاوز الأزمة حدود السيطرة.