سوق العاصر العتيق بقسنطينة

"حبيب المسكين".. أو قلب المدينة النابض يقاوم في صمت

"حبيب المسكين".. أو قلب المدينة النابض يقاوم في صمت
  • القراءات: 794
زبير. ز زبير. ز

يكتسي سوق العاصر بولاية قسنطينة، مكانة اجتماعية كبيرة تضاف إلى مكانته الاقتصادية والتجارية؛ حيث بات هذا الفضاء التجاري، معلَما مهما من معالم المدينة القديمة، ومحجا لسكان عاصمة الشرق، الذين يتمتعون بعبق التاريخ وهم يتجولون وسط الأحياء القديمة، وتعود بهم الذاكرة إلى الأيام الخوالي، والتي يختصرها البعض، خاصة من كبار السن، في نوستالجيا المدينة القديمة، خاصة أن هذا السوق يتوسط أهم أحياء وقلب وسط "مدينة قسنطينة العربية" وهو تقسيم وضعه المستعمر ليفرق بين السكان الأصليين، والسكان الأوربيين أو ما يُعرف بـ"الكولون".

أخذ "سوق العصر" أو كما يحلو للقسنطينيين تسميته "سوق العاصر"، اسمه من توقيت صلاة العصر؛ إذ تشير الروايات إلى أن هذا السوق كان يفتح أبوابه من صلاة الفجر، وكان يعج بالزبائن لاقتناء الخضر والفواكه الطازجة، خاصة القادمة من بساتين حامة بوزيان، التي كانت تباع بأثمان معقولة جدا، ليجد الفقير والغني ضالتهم في هذا التجمع التجاري، الذي يُعد بمثابة ملتقى أبناء المدينة؛ يتبادلون فيه مختلف الأخبار والمعلومات الخاصة بهم وبمدينتهم.

وكان السوق ينهي نشاطه مباشرة بعد صلاة العصر، وفق القرار الذي اتفق عليه التجار، والذي سرى على مدار عدة سنوات؛ حيث كانت كل الخضر والفواكه التي لا تباع، وتبقى إلى ما بعد هذا التوقيت، تقدَّم بالمجان للفقراء والمعوزين، الذين كانوا يجدون ضالتهم في هذا السوق، وبذلك كان سوق العاصر إضافة إلى بعده التجاري، يحمل بعدا تضامنيا واجتماعيا، ساهما في شهرته إلى خارج حدود الولاية.

معلَم تاريخي محاط بمعالم أخرى

رغم أن سوق العاصر من أهم المعالم التاريخية والسياحية بمدينة الجسور المعلقة، إلا أن أهميته زادت بالنظر إلى المعالم التاريخية المشهورة المحيطة به. فإضافة إلى موقعه بقلب المدينة القديمة؛ بين أحياء القصبة وشارع فرنسا (ري دو فرانس)، وشارع 19 ماي (ري دو شوفالييه) وشارع بلقاسم طاطاش (الشارع)، يحيط بهذا السوق العديد من المعالم التاريخية البارزة، على غرار ثانوية رضا حوحو التي تم تشييدها بين 1858 و1865، ووقف عليها شخصيا نابليون؛ في محاولة لتجسيد سياسة إدماج الأهالي. وهي الثانوية التي أنجبت العديد من الأسماء البارزة؛ على غرار المؤرخ الفرنسي بن يامين ستورة، وعدد من السياسين الجزائريين، وكذا الأطباء؛ على غرار البروفيسور أحمد عواطي. 

ولا يبعد سوق العاصر إلا بعرض طريق في حدود 3 أمتار إلى 4، عن مدرسة الكتانية التي تعود للشرفاء الكتانيين بعدما كان يطلق عليها اسم مسجد سيدي الكتاني، والتي جدد بناءها حاكم قسنطينة صالح باي، وتحولت إلى مدرسة، قبل أن يستغلها المستعمر في العديد من الاستعمالات، وأشهرها تحويلها إلى محكمة، قضت بسجن، ونفي وإعدام العديد من المقاومين في شكل الشيخين المقراني وحداد. وقد أنجبت هذه المدرسة العديد من الأسماء الجزائرية البارزة بعدما مهدت لتقديم وعي سياسي وديني كبيرين، وعلى رأسهم الرئيس الراحل محمد بوخروبة ابن مدينة قالمة، المعروف عند الجزائريين بالرئيس هواري بومدين، والرئيس الراحل علي كافي.

عين صالح باي على السوق

على بعد أمتار من سوق العاصر توجد مقبرة ملكية؛ حيث يرقد أحد أبرز حكام المدينة، وهو صالح باي، الذي كان من أشهر بايات الجزائر الذي حكم المدينة بين 1771 و1792. وعرفت المدينة في وقته ازدهارا ثقافيا، واجتماعيا واقتصاديا. وبات من أحب الحكام على قلوب أهل المدينة، الذين حزنوا حزنا كبيرا لمقتله.

وتشير العديد من الروايات إلى أن صالح باي دُفن بمدرسة الكتانية. ويتوسط قبره قبور عدد المسؤولين خلال الحكم العثماني، وأهاليهم، وعدد من كبار الدولة والقضاة؛ حيث يمكن تمييز قبره من خلال القبعة الرخامية الموجودة على قبره؛ فمن عادات الحكام العثمانيين وضع قبّعة كل حاكم أو رئيس قبيلة، على قبره. ويتم التمييز بين القبور في شكل القبعة. كما يضم المكان قبر ابنة وزوجة الباي الذي يرقد وعينه على سوق العاصر، غير بعيد عن جسر سيدي مسيد المعلق، الذي يربط أعلى ضفتي المدينة ببعضهما البعض.

"حبيب المسكين" يفقد جاذبيته

وقد فقد سوق العاصر بريقه مع مرور السنين؛ فرغم كونه من أقدم أسواق مدينة الجسور المعلقة ورغم أهميته التاريخية، خاصة أن التسوق إليه كان عادة من عادات سكان المدينة التي يحافظون عليها ما استطاعوا، إلا أنه مع مرور السنوات خاصة في ظل عمليات الترحيل الواسعة التي شهدتها المدينة القديمة نحو المدينة الجديدة علي منجلي ومع ظهور المراكز التجارية الكبيرة على الطراز الأوروبي والمحلات الحديثة، بات تجار هذا السوق ظلا لأنفسهم، وغابت الحركة التجارية التي ميزت هذا السوق على مدار عشرات السنين.

كما إن الحالة السيئة التي بات يتواجد عليها السوق وعدم استفادته من عملية ترميم لتصلح ما أفسده الدهر، جعلت العديد من التجار يهجرونه نحو مراكز تجارية عصرية، في ظل المنافسة الشرسة، ونقص إقبال الزبائن، الذين أصبحوا يجدون ضالتهم في أسواق أخرى، ويقتنون سلعهم بأثمان أقل من التي هي موجودة بسوق العاصر، وبذلك فقد هذا السوق شهرته التي تغنى بها عشاق المالوف؛ "سوق العاصر حبيب المسكين".

زبائن متعلقون بأصالة المكان

ويبقى عشاق التراث والحفاظ على الموروث التاريخي يقاومون التغيرات الكبيرة التي شهدتها قسنطينة بعد ظهور أقطاب سكنية جديدة؛ حيث بات عدد قليل من القسنطينيين يحافظون على وفائه وعلى زيارة السوق، ويجدون فيه من الذاكرة ما لا يجدونه في أسواق أخرى؛ حيث يكابر البعض على أنفسهم مشقة التنقل من المدينة الجديدة علي منجلي على بعد أكثر من 25 كلم أو من الأقطاب الحضرية بعين نحاس وماسينيسا بالخروب على بعد حوالي 20 كلم، أو من أحياء بكيرة بحامة بوزيان على بعد حوالي 7 كلم، نحو سوق العاصر ولو مرة في الأسبوع.

ويبرر هؤلاء الزبائن تمسّكهم بهذه العادة في التسوق من هذا الفضاء التجاري، للراحة النفسية التي يجدونها عند دخول المدينة القديمة، والتي تذكّرهم بتاريخ المدينة وحضارتها، كما تذكرهم بأهم أعلام أم الحواضر، وعلى رأسهم الشيخ عبد الحميد بن باديس، الذي كان يدرس بجامع لخضر على مقربة من سوق العاصر، والذي تتواجد مطبعته بشارع الأربعين الشريف داخل المدينة القديمة. وهناك من القسنطينيين من يزور السوق، فقط للفضول حتى وإن لم تكن ضالته في التسوق، فالمهم أنه يزور المكان، ويشم رائحة الأصالة والتراث؛ في رحلة سياحية انطلاقا من جسر سيدي راشد إلى حي السويقة، فحي طريق جديدة، صعودا عبر شارع 19 جوان (شارع فرنسا سابقا) إلى سوق العاصر.