بعضها أغلق بسبب نزاعات الورثة و أخرى طالها الإهمال

حمامات البليدة شاهدة على عادات متوارثة وتقاليد تأبى الزوال

حمامات البليدة شاهدة على عادات متوارثة وتقاليد تأبى الزوال
الباحث في تاريخ البليدة، عمي يوسف أوراقي، والمختصة في تراث البليدة ورئيسة جمعية صناعة الغد، وحيدة بن يوسف
  • 141
 رشيدة بلال رشيدة بلال

❊ الحمامات مكان لربط العلاقات الاجتماعية

تشكل الحمامات جزءا كبيرا من الحياة اليومية لساكنة مدينة "الورود"، ولا تزال شاهدة على عراقة وأصالة ناس "الوريدة"، فإلى جانب كونها تمتد إلى العهد التركي، كانت ولا تزال، كما يسميها سكان مدينة سيدي الكبير، مكاناً للاستحمام والراحة وتبادل أطراف الحديث وربط علاقات اجتماعية جديدة، وجزء من العادات والتقاليد، بحيث لا يمكن التخلي عن "تحميمة" في واحد من حماماتها التقليدية للمقبلات والمقبلين على الزواج. غير أن إهمال هذه المعالم ووجود نزاعات بين الورثة عليها، جعل أغلبها توصد أبوابها ويطويها النسيان، فمن بين 27 حماما بقلب "الوريدة"، أغلق 16 منها، ليضيع معها تراث لطالما عانق جدرانها. "المساء" ومن خلال التجول بين أزقة البليدة العريقة، وقفت على ما آلت إليه الحمامات التقليدية في ولاية البليدة، وعلى مدى تمسك السكان بها، رغم تراجع أعدادها.

وقفت "المساء" خلال الجولة الاستطلاعية، التي رافقنا فيها الباحث في تاريخ البليدة، عمي يوسف أوراقي، والمختصة في تراث البليدة ورئيسة جمعية صناعة الغد، وحيدة بن يوسف، في أزقة وشوارع مدينة الورود العريقة، على التواجد الكبير لعدد من الحمامات التي تجمعت في مجملها بقلب المدينة، وتحديداً في أحيائها العريقة بين حي "الجون" و"الدويرات".

والملفت للانتباه، من خلال ما تم رصده على ألسنة عدد من المواطنين، أن هذه الحمامات العريقة، كانت ولا تزال مملوكة لعائلات معروفة، فنجد مثلاً حمام "الزهار" الذي يعود لعائلة الزهار، حمام "ميخي"، حمام "المخباط"، حمام "وريدة"، حمام "كرموص"، حمام "ناصف"، وحمام "بوزيري"، حيث يتوارثون هذه المهنة أباً عن جد، وحتى إن تم إغلاقه، تظل العائلة معروفة بصنعتها، حيث كانت مهنة الحمام من المهن الشائعة في البليدة.

ما يعني أن العائلات البليدية كانت معروفة بحسب الصناعة التي كانت تمارسها، حيث نجد عائلة الخياطين، وعائلات أصحاب الحمامات، وعائلة الطرازين وغيرها. ولعل هذا ما جعل المجتمع البليدي لا يتخلى عن تقاليده، كون الحمامات تعتبر من المهن القديمة التي كانت تمارس. والملفت أيضاً، والذي يعكس التغيرات التي طرأت على المجتمع البليدي، أن كثرة الحمامات تدل على الوفرة الكبيرة في المياه، التي أكد السكان أنها كانت تزود الحمامات من جبال الأطلس البليدي، وتحديداً من منبع سيدي لكبير. غير أن تراجع منسوب المياه، بسبب قلة تساقط الثلوج، أثر كثيراً على نشاط الحمامات، مما جعل عدداً كبيراً منها يغلق أبوابه.

حمامات من العهد التركي شاهدة  على عراقة "الوريدة"

من بين الملاحظات التي شدت انتباه "المساء"، من خلال الجولة الاستطلاعية، أن الحمامات التي لا تزال تمارس نشاطها، حسب ساكنة البليدة، لا تزال محافظة على طابعها التقليدي، وهو ما وقفنا عليه لدى تجولنا في كل من حمام "بوزيري" وحمام "الزهار". فمثلاً، حمام "الزهار" الذي يعود إلى سنة 1940، وخضع للكثير من الترميمات والتعديلات من طرف مالكه، للحفاظ على طابعه التقليدي، عندما تدخل إليه تقابلك مساحة مخصصة لجلوس زوار الحمام، لانتظار دورهم، ما يعني أن الحمامات كانت تعرف إقبالاً كبيراً عليها. وبعد الدخول إليها، تجد أن الحمام تتوسطه ساحة كبيرة، تزينها نافورة يتدفق منها الماء، وهي النافورة التي كانت تزين بيوت البليدين في منازلهم القديمة، مثل حي "الدويرات"، حيث توضع المشروبات والفواكه، مثل البرتقال، في مياهها، حتى يتناولها الزوار بعد الانتهاء من التحميمة. والملاحظ أيضاً أنه، بعيداً عن الحمامات الحديثة، فإن الحمامات التقليدية تحتوي على ساحة كبيرة، بها عدد كبير من الحنفيات، وتستعمل فيها "صابون المسلمين"، كما أن أهم ما يميز هذا الحمام، تواجد عدد من النوافذ القريبة من سطح الحمام، التي تسمح بدخول الضوء، وتزين الساحة التي تتوسط الحمام بأقواس وزخارف إسلامية قديمة.

أما حمام "بوزيري"، الذي يقع في حي كوشة الجير، بقلب مدينة البليدة، فيعود لعائلة بوزيري، ولعل أهم ما يميزه الزخرفة الإسلامية واحتوائه على قاعات كبيرة وأزقة ضيقة، إضافة إلى عدد من النوافذ التي تسمح بدخول أشعة الشمس إليه. ولا يزال أصحابه يحافظون، حسب رئيسة جمعية "صناعة الغد"، السيدة وحيدة، على طابعه التقليدي، حيث قالت في معرض حديثها، إنه يعتبر شاهداً على عراقة المجتمع البليدي، إذ تزوره العائلات المعروفة والعريقة، نظراً لاتساع مساحته، ويحتوي على بيت "الساخن" و"البارد"، ولا يزال شاهداً على عادات وتقاليد المجتمع البليدي، إذ تتحمم فيه العروس "تحميمة العرس" وتقيم فيه "تصديرتها" الخاصة بالحمام، ثم تعود إليه بعد مرور 14 يوماً فيما يعرف بـ"حمام الأربعطاش"، حيث تزوره رفقة عائلتها الجديدة، وترافقها أدواتها المكونة من "البرية" و"التفريشة" و"المحبس" و"البنيقة"، المطرزة باليد، وتجلب معها بعض الحلويات التقليدية، مثل "الحنيونات" و"الشارابات" المكونة من الماء والسكر وماء الزهر المقطر وحبات الفل والياسمين. ولفتت المتحدثة في السياق نفسه، إلى أن عدداً كبيراً من حمامات البليدة أغلقت أبوابها، مثل حمام "وريدة" في باب الزاوية الذي تتوسطه نافورة، بسبب التنازع عليه من قبل الورثة، وهو أمر يتطلب تدخل السلطات المحلية، من أجل الاهتمام أكثر بالحفاظ على هذا التراث الذي بدأ يزول، بسبب الإهمال والنزاعات العائلية، مضيفة أن البليدة تحتوي على عدد كبير من المرافق السياحية، التي لا تزال مخفية ومهملة.

بينما حمام "النور" هو الآخر من الحمامات العريقة، ويعتبر شاهداً على عادات وتقاليد المجتمع البليدي، حيث تتوسطه نافورة صغيرة، وحسب شهادة البعض، يعود إلى ما قبل الحقبة الاستعمارية، ويعتقد آخرون أنه من "حمامات الصالحين"، وأن مياهه تأتي من جبال الأطلس البليدي، وهو مزخرف بالأقواس وتعلوه نوافذ. ويعتقد بعض البليديين أن مياهه مباركة، ويعتبر بمثابة علاج لمن يتحممون فيه، ولأن بعض الزوار يمضون وقتاً طويلاً في التحميم، فإنهم يجلبون حبات البرتقال، لتناولها بعد التحميمة والشعور بالانتعاش.

حمامات مغلقة وأخرى طالها الإهمال والنسيان

من أكثر الأمور التي تأسفنا عليها، أنه لم يتسنَّ لنا دخول عدد كبير من الحمامات، التي وجدناها مقفلة، مثل حمام "سيدي عبد الله"، الذي يعود إلى سنة 1818، وحمام "ميخي"، وحمام "القاضي"، ليس لأن أصحابها في عطلة أو أن ساعات العمل لم تبدأ بعد، إذ أن هذه الحمامات، حسب شهادة السكان، تبدأ نشاطها مبكراً، حيث تخصص الفترة الصباحية للنساء إلى غاية موعد العصر، ليتم إزالة الفوطة التي تعلق على الباب، وتشير إلى أن هذا الوقت مخصص للنساء، بعدها يبدأ موعد دخول الرجال، ويمتد إلى ما بعد صلاة العشاء، وإنما السبب هو خروج عدد كبير منها عن الخدمة، وهو أمر أعرب السكان عن أسفهم الشديد له، خاصة وأن أغلبها يعود إلى العهد العثماني وما قبل الحقبة الاستعمارية، بسبب وجود نزاع بين الورثة حول هذه الحمامات التقليدية، مما أدى إلى إغلاقها، في حين تم إهمال عدد منها وتحويل بعضها إلى محلات. وفي غياب توعية أصحابها بضرورة المحافظة على هذه المكاسب العمرانية، فإن عدداً من حمامات البليدة العريقة طواها النسيان، وتهدمت أجزاء منها وتحولت إلى مكب للنفايات.

وحسب المختص في تاريخ البليدة، يوسف أوراقي، فإن البليدة كانت معروفة منذ قديم الزمن بحماماتها التقليدية، التي تعتبر جزءاً من تراثها وتقاليدها. وحسبما يعتقد، فإن أهم الحمامات التقليدية التي لا تزال شاهدة على عراقة وأصالة المجتمع البليدي هي حمام "زنقة الباي"، الذي سمي بهذا الإسم، لأن "الداي" كان يسكن قربه، فأخذ تسميته منه، إلى جانب حمام "الزاوش "وحمام "الدلسي"، الذي بني قبل الحقبة الاستعمارية، وحمام" سيدنا" في بلاصة العرب. لافتاً إلى أنه على مستوى ولاية البليدة، إلى غاية اليوم، لدينا 27 حماماً، منها 16 حماماً مغلقاً، وأن أهم سبب جعل الحمامات تغلق أبوابها، هو التنازع بين الورثة، فيتم إغلاق الحمام ويتوقف استغلاله، لدرجة أن بعض الحمامات، بسبب مدة الإغلاق الطويلة والإهمال، تحولت إلى أماكن مهجورة، مثل حمام "عابد" وحمام "التريزور" الذي نبتت فيه أشجار في بيت "السخون"، لأن زوار الحمام، حسبه، فيما مضى، كانوا يأكلون الفاكهة ويلقون ببذورها على الأرض، وبعد إهماله، نبتت فيه الأشجار، وهو أمر نأسف له، يقول، "لأن الحمامات جزء من تراث البليدة".

بُعد اجتماعي ومحطة لربط العلاقات

ولعل سر اهتمام المجتمع البليدي بالحمامات، يعكسه العدد الكبير الموجود في قلب المدينة، حيث يعود بعضها إلى سنة 1828، مثل حمام "المخباط" في حي "الدويرات"، وحمام "الزهار" إلى سنة 1940، يكاد يكون في كل حي حمام تقليدي. أكد المتحدث أنه فيما مضى، كانت طبيعة السكنات التي لم تكن تتوفر على حمامات، كما هو موجود حالياً، "في الدويرات" كانت تتوفر على "السقيفة" التي يدخل ويخرج منها سكان الدار و"الساريج"، لذا كان يتم الاستحمام في الحمامات، حيث تأخذ المرأة "الرزمة" التي تتكون من اللوازم الضرورية للتحميمة، وخاصة "صابون المسلمين"، و"المحبس"، و"الطاسة" و"المرك"، وهو عبارة عن طاسة فوق طاسة، توضع فيها "صابون المسلمين" و"الطفل"، وهو غاسول، و"طاسة" توضع فيها الحناء المصنوعة، وبالطبع "الطاسة" تكون معدة من النحاس المنظف بحبات الليمون، و"القبقاب" الخشبي، الذي لم تكن تستغني عنه المرأة البليدية عند الذهاب للحمام وتحضره يوماً قبل، لأنه فيما مضى، كانت المرأة البليدية، تنظر إلى الحمام، كأنه صالون للعناية بجمالها.

لم تكن حمامات البليدة العريقة محطة فقط للتحميمة والعناية بالجمال، وإنما كانت، حسب المختص عمي أوراقي، مكاناً لربط العلاقات الاجتماعية وبناء علاقات جديدة، حيث كانت مكاناً للالتقاء مع الجيران والأحباب، ومكاناً للتعارف، إذ كانت الحمامات بولاية البليدة، مكاناً مفضلاً للراغبات في البحث عن فتيات لخطبتهم، حيث كانت هذه المهمة تلقى على عاتق الأم، التي تزور الحمام من أجل التحميمة، وتبحث عن عروس لابنها، بعدها تقترب منها للتعرف على اسم عائلتها، حيث كانت العائلات البليدية تأخذ تسميتها من الصنعة، التي يشتهر بها والدها، وبعدها تزور البيت وتطلب خطبة الفتاة. لافتاً إلى أن المرأة البليدية كانت تزور الحمام من مرة إلى مرتين في الأسبوع.

ومن بين المهام الأساسية للحمامات، التي تعتبر جزءاً لا يتجزأ من الحياة اليومية للأسرة البليدية، أنه غالباً ما يكون المكان الذي تعرفت فيه العجوز على كنتها، وهو المكان أيضاً الذي تعود فيه العروس، من أجل أن تتحمم فيه "تحميمة العرس". 

وحسب المختصة في التراث، السيدة وحيدة، فإن الحمامات في ولاية البليدة، اشتهرت أيضاً بأنها أماكن مفضلة للاستراحة، حيث تدخل إليها المرأة مثقلة بالتعب والضغط والإرهاق، وتخرج منها مفعمة بالراحة والطاقة الإيجابية، حيث تمضي فيها البعض أكثر من نصف يوم، لذا كان يقال، إن المرأة البليدية، عندما تزور الحمام تترك خلفها كل السلبيات وتخرج، وكأنها ولدت من جديد. مؤكدة أن الحمامات يقل عليها الطلب خلال فترة الصيف، أما في موسم الشتاء بزيارتها أكثر من ضرورة، حيث تكتظ خاصة في بعض الحمامات العريقة، مثل حمام "المخباط" "وحمام "البوزيري"، وتختم حديثها بالتأكيد على ضرورة لفت الانتباه إلى القيمة التراثية لحمامات البليدة، التي بدأت تختفي شيئا فشيئا.

حمامات ملكية خاصة وتهيئتها من مسؤولية أصحابها

حملت "المساء" الانشغال المتعلق بحالة الإهمال والإغلاق، التي طالت عدداً من حمامات البليدة القديمة، إلى مصالح مديرية الثقافة بالولاية. وحول ما إذا كان هناك برنامج خاص لتهيئتها، خاصة العتيقة منها، أكد مدير الثقافة بالنيابة، مراد مسكي، أن الحمامات المتواجدة عبر إقليم الولاية، هي ملكيات خاصة، بالتالي لا يمكن، وفق القانون، أن تتدخل المديرية في عمليات تهيئتها أو ترميمها.

وأوضح أن مسؤولية الحفاظ على هذه المعالم، تقع على عاتق أصحابها، سواء من خلال القيام بأعمال الترميم أو المطالبة بتسجيلها كتراث، مشدداً على ضرورة توعية المالكين بأهمية هذه الممتلكات التراثية، حتى يساهموا في الحفاظ عليها. وأضاف مسكي، في معرض حديثه مع "المساء"، بأن الدور الذي يمكن لمديرية الثقافة القيام به، يتمثل في تقديم التسهيلات للباحثين والطلبة الراغبين في تسليط الضوء على مثل هذه المعالم التراثية، من خلال التنسيق مع أصحابها، أما إعداد برنامج خاص لتهيئتها، فهو أمر خارج عن صلاحيات المديرية، بحكم أن الأملاك تعود إلى أصحابها.