مواسم الفرح في عنابة
ذاكرة تُضيء الحاضر وتصون التراث وتُجذر الانتماء

- 153

تفوح شوارع عنابة، كلما حلت مناسبة بعبق البخور وزغاريد النسوة، وتتعانق فيها دقات "الزرنة" مع خطوات الجيران المتجهين إلى بيوت الفرح. تنطلق المدينة في مواسمها متجددةً من المولد النبوي وعاشوراء، إلى الأعياد والختان، ثم الأعراس ونجاحات الطلبة وغيرها… هي محطات تُعيد للمدينة ألوانها وتثبت حضور طقوسها الأصيلة.
المولد النبوي..."الزرير" و"الطمينة" وطقوس الشموع
يعتبر المولد النبوي الشريف، من أعز المناسبات الدينية والاجتماعية في ولاية عنابة. منذ الصباح، تستيقظ الأمهات لتحضير الزرير، وهو طبق تقليدي يُعد من السميد المحمص والعسل والزبدة، وتُضاف إليه المكسرات واللوز، ويوضع في أوانٍ مزخرفة ليُقدَّم للأهل والجيران. وإلى جانبه تُعد ربة البيت الطمينة، التي تُعتبر طبقًا أساسيًا في هذا اليوم المبارك، تعبيرًا عن الفرح بذكرى مولد خير البرية.
مع غروب الشمس، تبدأ طقوس الزينة، إذ يخرج الأطفال حاملين الشموع الملونة، ويطوفون بها في الأزقة، في حين تجهز العائلات المفرقعات الصغيرة لإدخال البهجة في قلوب الصغار. في البيوت، يُقام عشاء جماعي يضم أطباقًا محلية، مثل الشخشوخة العنابية والثريدة المحضرة بمرق اللحم والدجاج، إضافة إلى أطباق أخرى يحرص العنابيون على إعدادها خصيصًا لهذه المناسبة. النساء يوزعن الحناء على الفتيات الصغيرات، وتتحول الجلسة إلى ليلة دافئة من الذكر والأغاني الدينية وزغاريد تُعلن عن فرحةٍ متوارثة جيلاً بعد جيل.
عاشوراء... صيامٌ وعشاء تقليدي يجمع الأهل
في عاشوراء، يلتزم الكثير من العنابيين بصيام اليوم العاشر، اقتداء بسنة النبي محمد صلى الله عليه وسلم. بعد الإفطار، تُوجَّه الدعوات للأهل والجيران لتناول عشاءٍ تقليدي، يجمع بين بساطة المكونات وعمق الرمزية. ففي بعض البيوت، يُطهى طبقٌ من لحم خروف العيد، وفي أخرى يُقدَّم الدجاج المطهو مع الكسكسي أو الشخشوخة. الطاولة العنابية في هذه الليلة تحمل نكهة خاصة، لأنها تُعد بروح المشاركة وتُختتم غالبًا بقراءة الفاتحة ترحمًا على الأموات.
لا مكان للمفرقعات في عاشوراء، بل تحل محلها أجواء الخشوع والتراحم، حيث تتبادل العائلات الزيارات، وتحرص الجدات على رواية قصص دينية مرتبطة بهذه المناسبة، فيغدو الجو مشبعًا بالسكينة والروحانية.
عيد الأضحى... الذبح وصناعة "القديد"
يبدأ عيد الأضحى في مدينة عنابة وضواحيها، بتكبيرات الفجر التي تملأ المساجد الكبيرة، منها مسجد الزبير بن العوام وجامع أبو مروان الشريف. بعد الصلاة، يتجمع أفراد العائلة في باحات البيوت أو الساحات أمام العمارات، ليشهدوا معًا طقس الذبح. الرجال يتكفلون بالشعيرة، فيما تُسارع النساء إلى تحضير الكبدة المشوية أول طبق يُقدَّم صباح العيد.
من خصوصيات العنابيين أنهم يبرعون في إعداد القديد، حيث يُقطع اللحم إلى شرائح طويلة، ويُملح ويُتبل بتوابل محلية خاصة، ثم يُعلق على شرفات البيوت وأسقفها تحت أشعة الشمس ليجف. هذا الطقس يتحول إلى مشهد جماعي في الأحياء، حيث تتبادل النساء النصائح حول أفضل طريقة للحفظ. وبعد أيام قليلة، يبدأ تبادل قطع القديد بين الجيران في عادةٍ تضاعف روابط المحبة.
عيد الفطر... حلوى البيت وخروج للبحر
في عيد الفطر، تنبض عنابة بنكهة خاصة. منذ الليلة السابقة، تمتلئ البيوت بروائح الحلويات التقليدية التي تُحضر بحب، المقروط العنابي ذو اللون الشاشي، أي المصفر، الغريبية الناعمة، والمشوك الذي تزينه حبات اللوز. صباح العيد يبدأ بالصلاة في المساجد، يعقبه تقليد راسخ، هو زيارة المقابر والدعاء للراحلين.
بعد تبادل التهاني في البيوت، تتحول المدينة بعد الظهر، إلى مهرجان مفتوح على البحر: الكورنيش، جنان الباي، وشطايبي تغص بالعائلات. عربات بيع الشواء، الشاي والفول السوداني، تنتشر على الأرصفة، وتصبح "المشية" على الساحل طقسًا يوميًا طوال أيام العيد.
الختان... طواف الطفل وسط زغاريد الحي
للختان مكانة خاصة في عنابة، فهو ليس مجرد إجراء صحي، بل مناسبة احتفالية بامتياز. يتم إلباس الطفل قندورة بيضاء وبرنوسا صغيرا، ويحمل أهله "الصينية" المزينة بالشموع والحلوى. في الأزقة الشعبية بمدينة عنابة، تتعالى الزغاريد وتصدح الزرنة والدربوكة، لتعلن مرور الموكب.
عند العودة إلى البيت، يُقام غداء عائلي، عادةً يتكون من الكسكس بالدجاج، وتُوزَّع الحلويات على الأطفال. هذا الاحتفال يتحول إلى رمز لانتقال الطفل إلى مرحلة جديدة من عمره، وهو مناسبة تظل محفورة في ذاكرة العائلة.
الأعراس... "التصديرة" و"الزرنة" و"الصباحية"
الأعراس العنابية تُختزل في عبارة واحدة: الفرح ممتد. تبدأ التحضيرات بـ"الشورة" و"الشرط"، وتبلغ ذروتها في ليلة الحمام، حيث تُزيَّن العروس بالحناء وسط غناء النسوة. في يوم العرس، تُقام "التصديرة" التي تعرض فيها العروس ألبستها، وعلى رأسها "القندورة العنابية" المطرزة بخيوط ذهبية.
"الزرنة" هنا سيدة الأجواء، إذ تقود موكب العريس عند قدومه، وتملأ القاعة بنغمتها الشعبية. الأطباق الأساسية هي الكسكسي بالدجاج أو اللحم، يليه "البوراك" و"الجاري العنابي". وفي اليوم التالي، تُقام الصباحية، حيث تحضر عائلة العروس ومعها هدايا متنوعة، من حلويات وفواكه، إلى بعض الأجهزة المنزلية، في أجواء عائلية دافئة.
المولود الجديد... "طمينة الفرح" و"عقيقة البركة"
عند قدوم مولود جديد، تستعد العائلة لتحضير الطمينة بالمكسرات، أو بالسميد والعسل والزبدة، وتُقدَّم في أوانٍ جميلة، يرش عليها القليل من الجوز والبندق. إذا قُدر للعائلة أن تذبح "العقيقة"، فإن اللحم يُوزَّع على الأقارب والجيران. في البيوت الشعبية، تُعلَّق شرائط زرقاء أو وردية على الأبواب، إعلانًا عن قدوم الضيف الجديد، فيما تتولى الجدات رش ماء الزهر في أركان البيت، طلبًا للبركة ودفعًا للحسد.
النجاح المدرسي... أفراح الشوارع وأهازيج الأمل
حين تُعلن نتائج "البيام" أو البكالوريا، تتحول عنابة إلى لوحة من الفرح. الشوارع تمتلئ بسيارات تطلق أبواقها، والشباب يأخذون صورا تذكارية للناجحين مع هدايا جميلة. الأهل يحضرون أطباق "الرفيس" والحلويات وتفتح البيوت لاستقبال الجيران. كثير من العائلات تختار الاحتفال على الكورنيش أو في مطاعم السمك بالميناء القديم، بينما يفضل آخرون إقامة وليمة في البيت. النجاح هنا ليس فرديًا، بل فرحة جماعية تشارك فيها العائلة والحي بأكمله.
بهذا التنوع، تُثبت عنابة أنها مدينة تعرف كيف تصنع الفرح وتوزعه، وأن مواسم الأفراح ليست مجرد محطات زمنية، بل هو موروث حي يعكس هويتها وذاكرتها الجماعية.