عنابة تستعيد روح العيد وحركتها الموسمية النابضة
رائحة التوابل والفحم وحكايات الأمهات وعبق الشواء

- 636

في عنابة لا يأتي العيد فجأة، بل يتهيّأ له الزمن، وتتزيّن له الشوارع، وتنبض به الأرواح قبل أن يُعلن الهلال قدومه. هنا، لا يُقاس عيد الأضحى بالتقويم وحده، بل تقرأه المدينة في حركة الأسواق، في أصوات الباعة، في رائحة التوابل والفحم، وفي حكايات الأمهات، وهمسات الجارات.
عنابة لا تستقبل العيد، بل تُعيد إحياء طقوسه؛ كمن يسترجع قطعة من ذاته، من ذاكرته، من تاريخه العائلي الذي لا يُنسى. ومع كل عام تعود المدينة إلى عادتها القديمة... تنبض بالحياة، وترتدي ثوبها التقليدي، وتُفتح البيوت والقلوب على مصراعيها.
من الأسواق الشعبية إلى تفاصيل البيوت، من السكاكين المشحوذة إلى الحنّاء على جبين الكبش، ومن ضحكات الأطفال إلى عرق الشباب في موسم رزق موسمي، يصير العيد هنا مشهدا حيا لا يُشبه سواه. في هذا الروبورتاج نرافقكم في رحلة عبر الزمن والمكان، حيث يتقاطع الواقع مع الذاكرة، والتقاليد مع الحداثة، لنرسم معاً صورة العيد في عنابة كما لم تُكتب من قبل.
بيوت عنابة ترتدي حلّة العيد قبل أن يُذبح الكبش
تستعيد ولاية عنابة قبيل عيد الأضحى المبارك، أجواءها المميزة، وسط حركة شعبية وتجارية كبيرة، تعكس عمق التقاليد، وتجذُّر العادات المتوارَثة، حيث عادت نصف العائلات لتأكيد نيّتها في ذبح الأضحية هذا العام، مدفوعة بقرار رئيس الجمهورية السماح باقتناء الكباش المستوردة بعد عامين من الترقب والانتظار.
أسواق المدينة تنبض بروح العيد
في الأسواق الشعبية على غرار "رحبة الزرع" و "لاكولون" و«قمبيطا"، تتضاعف الحركة مع اقتراب يوم النحر، وتتحول الشوارع إلى مساحات نابضة بالحياة، تجمع بين باعة الفحم، والتوابل، ومستلزمات الشواء، والملابس التقليدية، وحتى الأدوات المستعملة في الذبح والسلخ، حيث يغتنم الشباب الفرصة لتقديم خدماتهم الموسمية، مثل حرق صوف الخروف "البوزلوف"، والتي لا تقل كلفتها عن 600 دينار.
في الزحام.. تلمع أنامل النساء
وفي قلب هذه الحركية تحضر المرأة العنابية بكثافة، إذ تبدأ استعداداتها قبل أيام، بتزيين المنزل، وتنظيفه، واقتناء الأفرشة الجديدة. ثم تتوجه إلى الأسواق لشراء ما يلزم لتحضير الأطباق التقليدية. تقول السيدة ليندة، إحدى ربات البيوت: "نحب إدخال البهجة على صغارنا بلباس جديد، لا يُشترط أن يكون باهظ الثمن، المهم أن يظهر الطفل في أبهى حلة بعد ذبح الأضحية".
التوابل.. طقوس لا تُختزل في النكهة
التحضيرات تمتد أيضا إلى تجهيز التوابل الخاصة بطقوس العيد، حيث يتم اقتناؤها في شكلها الخام، ثم تُطحن يدويا في المنازل، خاصة تلك المخصصة للشواء في اليوم الأول، والكسكسي في اليوم الثاني؛ مثل رأس الحانوت، والكروية، والدرسة الحارة. وتضيف مواطنة أخرى: "من عاداتنا أن نخضب رأس الكبش بالحناء، ونجهز الحنة في البيت؛ كطقوس رمزية، مستوحاة من الماضي الجميل".
عادات متجذرة في الذاكرة الجماعية
كما يتم تجهيز مختلف الأواني والقدور، وتحضير الحلويات الجافة لاستقبال الضيوف، مع توزيع الأدوار بين أفراد العائلة. أما الزيارات العائلية فتتم غالبا بعد اليوم الأول؛ أي بعد الانتهاء من طهو طبق الكسكسي.
الشباب والعيد موسم رزق من نار وصوف
أياماً قليلة قبل عيد الأضحى، تتحول أحياء الشوارع الرئيسة لمدينة عنابة، مثل "لاكولون" و "قمبيطا" و"رحبة الزرع"، إلى فضاء واسع يعج بالخدمات التجارية الموسمية المرتبطة بالعيد.
من الذبح والسلخ إلى التقطيع وحرق صوف الأضحية، يتكفل الرجال بهذه المهام، خاصة من لهم خبرة طويلة في هذا المجال، ويعدّونه مصدر رزق سنوي. الشباب العنابيون يستغلون الفرصة لعرض خدماتهم الموسمية، مثل حرق البوزلوف بسعر لا يقل عن 600 دينار، بينما تقف رؤوس الأضاحي في طوابير صامتة، في مشهد يغيب عنه البشر، لكن تحضره الاستعدادات على قدم وساق.
السكاكين تُشحذ... والسنفونية تبدأ قبل النحر
تُشحذ السكاكين بصوتها المميز. وتُجهز المناشير والآلات الكهربائية استعدادا لتقطيع اللحم، بينما تعبَّق الأجواء برائحة الفحم والتوابل، في انتظار لحظة الذبح. ومع حلول يوم العيد يتحول المشهد إلى سيمفونية شعبية جماعية؛ رجال يُشرفون على الذبح والسلخ، شباب يعرضون خدمات تقطيع اللحم، وأطفال يرتدون ملابسهم الجديدة، يركضون في الأزقة، فيما تبقى النساء مشغولات بتحضير الشواء، وتنظيم تفاصيل الضيافة.
العيد في عنابة.. طقس أم ذاكرة؟
الروائح المنبعثة من الشواء، وحركة الأطفال بالملابس الجديدة، ونشاط الأحياء الشعبية، كلها ملامح تُجسد روح العيد، وتُعيد لعنابة زخمها الأصيل بعد سنوات من التحفظات والقيود. إنه العيد في عنابة بطعمه، ونكهته، وخصوصيته، حيث لايزال للحنّاء على رأس الكبش وللكسكسي في اليوم الثاني وللبهجة في عيون الصغار، معنى خاص يصنع الفارق، ويُؤكد أن العيد ليس مجرد طقس، بل هو حكاية من العادات، والجذور، والذاكرة الجماعية.