العائلات العنابية وموسم النجاحات
طقوس وعادات تترجم قيم المجتمع

- 115

تُعد ولاية عنابة الواقعة شرق الجزائر، من أكثر المناطق التي تعتز بعاداتها وتقاليدها العريقة، وتولي اهتماما بالغا بالمناسبات السعيدة، وعلى رأسها نجاح الأبناء في مختلف المراحل الدراسية، سواء تعلق الأمر بشهادة التعليم الابتدائي، أو التعليم المتوسط، أو البكالوريا، فإن هذه المناسبة تتحوّل إلى عيد حقيقي داخل البيوت العنابية، بل وحتى النجاحات الدراسية السنوية تُقابَل بكثير من الفخر، والفرح.
إعلان النتائج لحظة مفصلية في حياة العائلة
عند اقتراب موعد الإعلان عن النتائج، تسود حالة من الترقب والتوتر داخل البيوت، لا سيما إذا كان الأمر يتعلق بشهادة البكالوريا. الجميع يكون مشدود الأعصاب، مترقبا الخبر السعيد. وما إن تُعلن النتائج حتى تنفجر مشاعر الفرح، وتتحول البيوت إلى ساحة احتفال عفوي، يختلط فيها الدمع بالضحك، والدعاء بالتهاني.
وتبدأ التهاني بالتبادل بين أفراد العائلة، والجيران، والأصدقاء. وتكون الاتصالات الهاتفية حاضرة بقوة. وتنتشر رسائل المباركة على منصات التواصل الاجتماعي. وتعلو عبارات التهنئة من كل مكان، وأشهرها: "رفعت رأسنا" ؛ في إشارة إلى أن الابن أو الابنة قد شرّف العائلة بنجاحه.
بهجة في الأحياء... زغاريد ودربوكة وأشياء أخرى
من أولى مظاهر الاحتفال التي تعكس التراث الشعبي في عنابة، إطلاق الزغاريد عند سماع خبر النجاح، خصوصا إذا كانت الناجحة فتاة. ويرافق هذه الزغاريد إيقاع الطبل التقليدي أو "الدربوكة"، ما يضفي على اللحظة طابعا مميزا. ويجعل الفرح يسمع في كامل الحي أو العمارة. الأطفال يركضون في الشوارع ملوّحين بالأعلام أحيانا، أو يطلقون أصوات الفرحة بصيحات بريئة.
"الزردة"... مأدبة تُوحّد العائلة والجيران
عندما يكون النجاح كبيرا مثل الحصول على شهادة البكالوريا، تُقيم الكثير من العائلات في عنابة "الزردة" . وهي وليمة احتفالية تُعدّ من أعرق العادات الجزائرية.
وتتكون المأدبة غالبا من أطباق تقليدية محلية؛ مثل الكسكسي بلحم الغنم، والشخشوخة، والثريدة، أو الرشتة.
والدعوة تشمل العائلة الممتدة، والجيران، وأصدقاء الطالب الناجح، وأحيانا زملاء الدراسة والمعلمين.
وتتحول الزردة إلى فرصة اجتماعية لتعزيز الروابط بين العائلات، ولمّ الشمل، وهو ما يعكس قيمة النجاح ليس فقط على المستوى الفردي، بل كإنجاز جماعي يخص المجتمع بأسره.
الحنّاء واللباس التقليدي... لمسة رمزية واحتفالية
بالنسبة للفتيات، يُقام في بعض الأحيان سهرة حناء داخل المنزل، حيث تُزيَّن أيدي الناجحة برسومات الحناء، وسط أجواء عائلية تتخللها الأغاني، والأهازيج، وتقديم الحلويات والمشروبات.
هذه السهرة تمثل رمزا للفرح، وطقسا من طقوس الانتقال إلى مرحلة جديدة من النضج.
أما الأولاد فيُهدَى لهم في العادة، لباس جديد؛ إما لباس صيفي أنيق، أو لباس تقليدي جزائري؛ مثل القندورة أو الجلابية، يلبسونه أثناء المشاركة في الولائم أو المناسبات التي تُقام على شرفهم.
"لباروك"... مكافآت النجاح
من بين العادات الجميلة في عنابة أن يُقدَّم للناجحين هدايا تشجيعية؛ تقديرا لجهودهم. وأكثر هذه الهدايا شيوعا "الباروك" . وهو مبلغ مالي يُمنح عادة من قبل الأقارب، كنوع من المباركة.
وإلى جانب المال يُقدَّم للناجحين هواتف نقالة، أو ساعات يد، أو أجهزة إلكترونية، أو حتى دراجات.
وهذا التقليد يُعزز في الأبناء الشعور بالنجاح والانتصار. ويُعدّ حافزا نفسيا لمواصلة المسيرة التعليمية بكل عزيمة.
الاحتفال على شاطئ البحر والمطاعم
بما أن عنابة مدينة ساحلية معروفة بجمال شواطئها، تُنظَّم، أحيانا، خرجات ترفيهية إلى البحر للاحتفال، خاصة إذا تزامن النجاح مع بداية العطلة الصيفية.
وبعض العائلات تختار الذهاب إلى مطاعم مفضّلة لتناول وجبة مميزة، في أجواء عائلية مرحة.
تكريم جماعي في المدارس والمراكز الثقافية
وفي بعض الحالات تقوم جمعيات أولياء التلاميذ أو إدارات المؤسسات التعليمية، بتنظيم حفلات تكريم للطلبة المتفوقين، يُمنحون خلالها شهادات تقدير، وهدايا رمزية. وتُلتقط الصور التذكارية التي تُخلَّد هذا الإنجاز في ذاكرة الطالب، والعائلة.
النجاح قيمة تربوية واجتماعية
الاحتفال بالنجاح في عنابة لا يقتصر على الجانب المادي أو المظهري، بل يحمل في طياته رسائل اجتماعية وتربوية عميقة؛ فهو يعزّز روح المثابرة، ويرسّخ قيمة العلم والمعرفة داخل المجتمع. كما يُعدّ فرصة لتكريم الأسرة التي سهرت، وساعدت في غرس ثقافة الطموح عند الإخوة الأصغر سنا.
ويبقى النجاح في نظر العائلات العنابية، محطة من محطات الحياة، لا تقل أهمية عن الأعياد الدينية أو الوطنية؛ لما تحمله من دلالات الفخر، والتقدير والأمل في مستقبل مشرق.