التداوي الذاتي في الجزائر
ظاهرة موسمية تتجاوز الوصفات الطبية

- 199

مع تغيّر الفصول وخصوصا خلال موسم الخريف والانتقال إلى الشتاء، تظهر في الجزائر وتحديدا في مناطق حضرية ووسط المجتمع، موجة واضحة من التداوي الذاتي، حيث يُقبل المواطنون على شراء الأدوية مباشرة من الصيدليات دون استشارة طبيب ولا حتى وصفة طبية. هذه الظاهرة وإن كانت موجودة منذ سنوات، إلا أنّها تعرف ذروتها خلال هذه الفترة، وتكتسب أبعادا جديدة لم تسلَّط عليها الأضواء كفاية. فما يبدو في ظاهره سلوكا يوميا عاديا، هو في حقيقته ظاهرة، قد تشكّل خطرا على الصحة، لا سيما بسبب الاستهلاك المفرط والعشوائي لبعض الأدوية، في ممارسة آخذة في الانتشار بشكل غير مسبوق، خاصة في هذا الموسم الذي يعرف تزايد نزلات البرد، وحالات الحساسية، وآلام المفاصل، وتقلّب الحالة الصحية العامة لدى فئات مختلفة من المجتمع.
مع كلّ دخول اجتماعي وعودة تقلّبات الطقس، تشهد الجزائر مشهدا متكرّرا لا يلفت الانتباه كثيرا رغم خطورته. طوابير طويلة على أبواب الصيدليات، وطلبات لا تُحصى على أدوية مختلفة، تُطلب مباشرة دون وصفة طبية، ودون استشارة طبيب مختصّ، لتجد الناس يدخلون ويخرجون كما لو أنّهم في محلّ تجاري، يختارون أسماء أدوية بأنفسهم، يحدّدون حتى الجرعة أحيانا، بل ويجادلون الصيدلي في أفضليتها.
وحسب ما أفاد به الصيدلاني مراد فرينة الذي يعمل في إحدى الصيدليات القديمة بباب الزوار منذ أكثر من 15 عاما، ففي نهاية الصيف وبداية الخريف يلاحَظ ارتفاع كبير في عدد الزبائن الذين يطلبون أدوية مضادة للزكام، والحساسية، وآلام المفاصل وحتى مضادات حيوية... وغالبا دون أيّ استشارة طبية، مضيفا أنّ اللافت هذا العام هو أنّ كثيرا من الناس يأتون بمعلومات من الأنترنت أو من أقارب، ويطلبون أدوية محدّدة بالاسم، وحتى بالجرعة، مشيرا إلى أنّ انتشار ذلك في نظره، راجع إلى سهولة بلوغ تلك الأدوية اليوم، حتى إنّ البعض يباع على أساس مكمّلات غذائية عبر صفحات منصات التواصل الاجتماعي، وكمنتجات أصلية من سلعة "الكابة" كما يحلو للبعض تسميته، إلاّ أنّها في حقيقة الأمر مجهولة المصدر. ويمكن أن تكون مغشوشة. وقد تشكّل خطرا على الصحة، مشدّدا على أنّ ذلك الانتشار الكبير للأدوية وبصفة غير مسبوقة، جعل من تلك الأدوية منتجات واسعة الاستهلاك، ولا يتخوّف الكثيرون في اقتنائها دون وصفات طبية، بهدف علاج مشاكل صحية موسمية دون أيّ تحليل طبي.
وقال المتحدّث: " نشهد تراجعا كبيرا في الاستشارات الطبية؛ سواء بسبب الخوف من الأمراض، أو ارتفاع تكاليف الفحص الطبي بعد مواعيد العيادات، أو ارتفاع تكاليف التحاليل الطبية، أو بكلّ بساطة الاعتياد الاجتماعي على الاعتماد على التجربة الشخصية ".
أكثر من عادة بل ثقافة راسخة
هذا ما أشار إليه الصيدلاني؛ قال: "ما لا يقال كثيرا، إنّ التداوي الذاتي أصبح ثقافة مترسّخة، تتغذى على مزيج من الثقة الزائدة في المعرفة الذاتية، أو الإرث الشعبي الذي يرى أنّ الدواء معروف لمشكل معيّن، وهو نفسه لا يحتاج طبيبا لوصفه "مرة أخرى"، أو حتى التطبيع الإعلامي مع الإعلان المباشر وغير المباشر عن الأدوية" . وسلّط الصيدلاني في حديثه، الضوء على نقطة مثيرة، وهي أنّ بعض الزبائن يطلبون أدوية بناء على نصائح من صفحات على الفايسبوك أو تيك توك، خاصة وصفات طبيعية ممزوجة بأدوية صيدلانية دون وعي منهم أنّها قد تكون سموما قاتلة وخطيرة جدّا على صحتهم، لتجدهم يلجأون إلى أكثرها خصوصية لمشكل صحي معيّن واستعمالها لدواع علاجية وجمالية جانبية؛ منها ما يحتوي على كورتيزون تُستخدم دون علم بآثارها الجانبية الخطيرة.
وشدّد المتحدّث على أنّ التداوي الذاتي لم يعد يقتصر على تناول المسكنات أو أدوية الزكام، بل بدأ يمتدّ إلى مضادات حيوية تُستخدم بشكل عشوائي؛ ما يسرّع مقاومة البكتيريا، إلى جانب مهدئات ومنوّمات تباع أحيانا دون رقابة صارمة، ما يهدّد بالإدمان عليها. وقال الصيدلاني: "أخطر ما لاحظناه هو تزايد طلب المراهقين على أدوية الحبوب والجلد؛ بسبب تأثيرات منصات التواصل دون أيّ فحص من طبيب الجلد، أو يقبلون على المكملات "السحرية" لإنقاص الوزن، أو زيادة الكتلة العضلية، دون فهم حقيقي لمكوّناتها أو تأثيراتها على المدى البعيد؛ فهذا التوجّه يفتح الباب أمام استخدام عشوائي لمستحضرات قد تحتوي على مواد عديدة، قد تؤثر بشكل كبير على الهرمونات ".
ووجّه الصيدلاني أصبع الاتهام أيضا، نحو بعض الشركات التي تمارس ما يُعرف بالتسويق الخفي للأدوية. فالشركات لم تعد تلجأ فقط إلى الإعلانات المباشرة، بل توظّف استراتيجيات أكثر خفاء؛ كحملات توعية "مموّهة"، تقود في النهاية إلى الترويج لدواء معيّن، أو شهادات شخصية مؤثّرة توحي بالفعالية دون ذكر الأعراض الجانبية أو التوصيات الطبية، وهذا ما يضعنا أمام تضليل ناعم، تمارسه بعض الحملات الإعلانية للأدوية عبر الأنترنت.
وأكّد المتحدّث أنّ الصيدلاني هو خط الدفاع الأخير. فبعض الصيادلة المتمكنين يحاولون التوعية قدر المستطاع، لكنّهم ليسوا أبدا بدلاء للطبيب، في حين صيادلة آخرون لا يهمهم الأمر، فيكتفون ببيع تلك الأدوية مادام غير ممنوع تسويقها دون وصفات طبية، ولا يدخلون أبدا في جدال مع الزبون؛ خوفا من فقدانه، أو من غضبه، دون الاضطرار إلى اقناعه وصرفه دون اقتناء الدواء؛ إذ يؤكّد البعض أنّهم إذا لم يسمحوا للبعض باقتناء دواء معيّن من عندهم، ينتقلون إلى صيدلية ثانية لشرائه دون أيّ مشكل.
ارتفاع الوعي صمام أمان
شدّد محدّث "المساء" في الأخير على أنّه في موسم يكثر فيه المرض، يجب أن يتكاثر الوعي لا العشوائية، وأن نعود إلى أصل الطب، وهو التشخيص قبل اقتناء الدواء. فالرهان الآن ليس فقط على ضرورة سنّ القوانين والرقابة الصارمين، بل على بناء وعي مجتمعي جديد، يبدأ من المدرسة، والإعلام. ويعزَّز بثقافة احترام التخصصات. فالصحة ليست مجالا للتجربة أو الاجتهاد الشخصي، والتداوي الذاتي، وإن بدا حلا مؤقتا، قد يحمل عواقب دائمة، ويفتح أبوابا لمضاعفات لا تغلَق بسهولة.