"التحرش النفسي" في العلاقات

عنف بلا آثار وندوب لا تشفى

عنف بلا آثار وندوب لا تشفى
  • 123
نور الهدى بوطيبة نور الهدى بوطيبة

في الوقت الذي يتحدّث العالم كثيرا عن العنف الجسدي داخل الأسر والعلاقات الزوجية، يغيب النقاش عن نوع آخر من العنف. لا ترى كدمات على الجلد، لكنّه يترك جروحا عميقة في الروح، وهو التحرّش النفسي، أو ما يمكن تسميته بالعنف غير المرئي، يعيشه المئات والملايين داخل الأسرة أو خلال العلاقة الزوجية. لا يُشعَر بآلامه أحيانا، يعيشه البعض بصمت، وينتفض آخرون لواقعه. يصيب بآثار نفسية متفاوتة، أحيانا تكون على حسب قوّة المعاناة، وأحيانا قد تكون بالشخصية في حدّ ذاتها. كل هذا ناقشته "المساء" على هامش اليوم العالمي للصحة النفسية، الذي يحتفي به العالم للبحث عن عالم صحي وسليم في أكتوبر من كلّ سنة.

"ليس كلّ جرح يرى، وليس كلّ ألم يترك كدمات"، بهذا الشعار غير المعلن، يعيش كثيرون، تحت وطأة ما يعرف بالتحرّش النفسي في العلاقات، خاصة الزوجية والعائلية، وهو أحد أشكال العنف النفسي المستتر، الذي لا يدان في العلن، لكنّه يفتكّ بالبنية النفسية للفرد ببطء، وتحت صمت ثقافي واجتماعي خانق، في اليوم العالمي للصحة النفسية، الذي يوافق 10 أكتوبر، تسلّط "المساء" الضوء على هذا النوع من العنف الذي غالبا ما يقلّل من شأنه أو يبرّر داخل جدران البيوت، في دوائر يفترض فيها الناس الأمان.

عنف لا يُرى.. لكنّه يُشعَر

يقول أخصائي الطب النفسي والعلاقات الأسرية الدكتور سامي مرجان، إنّ التحرّش النفسي شكل من أشكال التعدي على سلامة الفرد النفسية، يتمثّل في التلاعب، والإذلال، والسيطرة، والتحقير، والتجاهل العاطفي، أو استخدام الصمت كسلاح. وهو عنف صامت لا يخلّف آثارا جسدية، لكنّه يترك تمزّقات داخلية عميقة، قد تكون أخطر من الكدمات نفسها. وقد تصل مضاعفاتها إلى أمراض حسية خطيرة جدّا؛ منها السرطان بسبب القلق المزمن.

ويؤكد الدكتور أن هذا النمط منتشر بشكل أكبر مما نعتقد، خصوصا في العلاقات التي يُفترض أن تقوم على المحبة والرعاية، مثل الزواج أو العلاقة بين الوالدين والأبناء أو حتى الأخوات. 

وأضاف أنّ هذا العنف يمارَس غالبا من طرف من يملك سلطة عاطفية أو اجتماعية أو مالية على الآخر؛ ما يجعل الضحية في موقع ضعف مستمر، وأحيانا غير مدرك تماما لكونه ضحية، حتى إنّ المتسلّط قد لا يدرك أحيانا تلاعباته بتلك المشاعر؛ أي تكون عن قصد أو دون قصد. وتجده هو الأخر يعاني من مشاكل نفسية متفاوتة الحدّة، كالقلق والتوتر، والنرجسية، والتسلّط، وحبّ التحكّم وحبّ التملك، وغيرها من الصفات التي إن ما يجد ضحية واضحة لذلك، فيمارس عليها مختلف أنواع العنف النفسي.

وأكّد الخبير أنّ التحرّش النفسي لا يعني فقط الشتائم أو الصراخ، بل قد يكون "أكثر خبثا"، على حدّ تعبيره، يتسلّل عبر تفاصيل الحياة اليومية؛ كالصمت العقابي، والتوقّف عن الكلام، أو عدم التفاعل لأسابيع؛ بهدف معاقبة الطرف الآخر، أو حتى التقليل المستمر من شأن الشريك أو الابن، وتكرار التعليقات التي تهدم الثقة بالنفس؛ مثل "أنت لا تفهم شيئا"، و "فلان أحسن منك" أو "ما كاش اللي يتحملك غيري"...

كما إنّ المراقبة والسيطرة تتبع تحرّكات الطرف الآخر، يقول الخبير، التحكّم في طريقة لبسه، أو صداقاته، أو حتى طريقته في التفكير أو الكلام، أو حتى منعه عن الكلام أساسا. هي مشاهد تتكرّر في كلّ مرة، يروح أحيانا ضحيتها شخص واحد، في حين يمكن أن تكون محفّزا لتحطيم نفسية عدد كبير من الأفراد في آن واحد. 

وأضاف الأخصائي أنّ تلك المعاناة النفسية لها أوجه عديدة. والتعنيف أيضا له أوجه مختلفة، وهي درجات تبدأ بتحكّم بسيط إلى غاية سلوكات أكثر تعقيدا، تضع الضحية في خانة الشكّ، وعدم الثقة، والوسواس إلى درجة أنّه أساس المشاكل؛ كاللعب على وتر الذنب مثلا؛ كأن يحمَّل شخصٌ مسؤولية مزاج الطرف الآخر، أو يُجبر على التنازل بحجة الحب أو التضحية، فكلّ هذه السلوكات تنضوي تحت ما يسميه المختصون "الاعتداء النفسي غير المباشر" . ويُعدّ شكلا من أشكال العنف الأسري الصامت.

وقد يترك التحرّش النفسي طويل الأمد، آثارا أخطر من العنف الجسدي، وفقا للدكتور، قائلا إنّ "الضحايا يعانون من انخفاض حاد في احترام الذات، وقلق مزمن، واكتئاب، ونوبات هلع، وفقدان الشعور بالهوية والاحترام. والبعض يعيش في حالة تأهّب دائم، ويشكّك في قراراته، ويعاني صعوبة في إقامة علاقات صحية مع طرف آخر مهما كان هذا الأخير جيّدا ويحسن المعاملة. وفي كثير من الحالات، يضيف، لا يدرك الضحايا أنّهم يتعرّضون للإساءة أساسا؛ بسبب تطبيع المجتمع هذه الأنماط السلوكية، أو بسبب الحرج الاجتماعي من الاعتراف بوجود مشكلة داخل الأسرة".

وفي الأخير، قال الطبيب إنّ أوّل خطوة للعلاج هي الاعتراف بأنّ ما يحدث ليس طبيعيا، وعلاج من يمارس العنف قبل الضحية. ولا يجب التنازل عن النفس والكرامة، مع أهمية تفكيك الصور النمطية عن العلاقات، ودمج مفاهيم العنف النفسي في حملات التوعية والتحسيس.