بين الرغبة والطموح...

مدارس اللغات تستقطب جيلا متفتحا على الألسن

مدارس اللغات تستقطب جيلا متفتحا على الألسن
  • 146
نور الهدى بوطيبة نور الهدى بوطيبة

تشهد الجزائر حركة لافتة من قبل فئة الشباب، نحو معاهد ومدارس تعليم اللغات الأجنبية؛ في مشهد يعكس تحوّلا ثقافيا، وتوجّها جديدا في أولويات الجيل الحالي؛ إذ لم يعد تعلّم اللغة الأجنبية مجرّد أداة لتحسين المعدّل المدرسي أو شرطا للهجرة، بل أصبح مشروعا شخصيا، يتقاطع فيه الطموح الفردي مع الانفتاح الثقافي، وحتميات سوق العمل المعولم. واقع دفع بالعديد من المدارس إلى التخصص في تعليم اللغات، ولا حدود لها وإن كانت لغة بعيدة تمام البعد عن اللغات اللاتينية.

في زوايا العاصمة الجزائرية ومدن الداخل، بدأت لافتات مدارس اللغات الأجنبية تزاحم المقاهي والمكتبات، تعلن عن دورات تكوينية مكثفة في الإنجليزية، والإسبانية، والتركية، وحتى الألمانية، والصينية. ولم يعد تعلّم لغة أجنبية مجرّد رفاهية ثقافية، بل أصبح بالنسبة لكثير من الشباب، ضرورة وجودية، مرتبطة بالحلم، والهجرة، والعمل، أو حتى بالفهم الأوسع للعالم وثقافته مهما كانت الكيلومترات تفصله عن تلك الدولة.

وفي جولة عبر عدد من المعاهد الخاصة بالعاصمة، تلاحظ بسهولة أنّ الطلب يفوق العرض في كثير من الأحيان، خصوصا في فترات ما بعد الامتحانات الرسمية أو العطلة الصيفية، ومع بداية الدخول الاجتماعي، موسم التسجيلات؛ إذ إنّ الإقبال أصبح واضحا، ولم يعد يقتصر على الإنجليزية أو الفرنسية، بل وصل إلى لغات أخرى؛ مثل التركية، والإسبانية، والألمانية، وحتى الكورية، واليابانية والروسية.

هذا الإقبال اللافت لا يبدو مفاجئا في ظلّ ما يشهده العالم من تغييرات متسارعة، لكن ما يميّزه في السياق الجزائري، أنّه لم يكن نتيجة سياسة لغوية مباشرة، بل خيار فرضته التحوّلات الرقمية، والاقتصادية، والثقافية التي يعيشها جيل بأكمله، جعلت منه يستهلك مختلف الثقافات، ويتفتّح عليها؛ سواء من باب الضرورة أو فقط من باب الفضول، والرغبة الشخصية. ويبحث الشاب الجزائري اليوم عن أدوات تساعده على تجاوز حدود بلده، لا فقط جغرافيا، بل ذهنيا أيضا؛ فلغة أجنبية تعني له نافذة على فرص جديدة، وإمكانية للاشتغال "عن بعد"، ودراسة في الخارج، أو حتى مجرّد التفاعل مع المحتوى الرقمي العالمي دون وسيط.

وفي حديث مع عدد من مؤسّسي مدارس اللغات الخاصة بالعاصمة، يظهر أنّ السوق في توسّع متواصل. تقول مديرة إحدى المدارس وسط العاصمة: "منذ عام 2020 ارتفع عدد المسجّلين بنسبة تفوق 70%. والطلب الأكبر حاليا هو على اللغة الإنجليزية. يليها التركية، ثم الألمانية، والصينية ". ورغم أنّ الفرنسية ماتزال مطلوبة، تضيف، " لكنّها فقدت مكانتها الأولى".

والمثير في هذا التحوّل، تشدّد المديرة، أنّ تعلّم اللغات لم يعد مقتصرا على طلبة الجامعات أو الباحثين عن شهادة إضافية، بل أصبح يشمل شرائح مختلفة؛ كتلاميذ في الثانوي، وعمال في القطاع الخاص، وحتى عمال ذوي خبرة سنوات في القطاع العمومي، وكذلك أمهات وربّات بيوت؛ فالجميع بات يرى في اللغة مفتاحا يفتح أكثر من باب، ويوسّع آفاق العلم والمعرفة التي تُكتسب دون مشكل، بل تتطلّب، فقط، القليل من الوقت، والكثير من المثابرة والإرادة.

وتقدّر تكلفة التكوين في معاهد اللغات الخاصة، بين 4 آلاف و8 آلاف دينار جزائري للشهر الواحد بالنسبة للدورة العادية، حسب نوع اللغة، ومستوى الدورة، وطولها. وبعض المدارس تقترح حزمات "سريعة" تضمّ برامج مكثّفة تنجَز في شهرين، خاصة لطلاب IELTS أو TEF أو TestDaF. وهي شهادات مطلوبة للهجرة والدراسة في الخارج، في حين تقابل تكاليف تلك الدروس المتقدّمة أو التحضيرية للامتحانات الدولية، فتتراوح بين 10 آلاف و25 ألف دينار جزائري حسب المدة، واللغة، والفترة كذلك.

ومن جانبها، تؤكّد دعاء، أستاذة لغة بمعهد بالعاصمة، أنّ تلك الأسعار ليست أبدا تضييعا للمال، وإنّما هي استثمار في الحياة المستقبلية، واستثمار ثقافي، وعلمي شخصي، يزيد من رصيد معرفة الفرد. واختيار اللغة يكون حسب الحاجة، والميول أو حتى الفضول. وقالت إنّ اللغة الإنجليزية تحتلّ المرتبة الأولى من حيث عدد المسجّلين. تليها الإسبانية، ثم التركية، فالفرنسية، والألمانية، ثم مؤخّرا تسجيل إقبال ملحوظ على اللغة الصينية؛ بسبب التفتّح الكبير على التجارة التبادلية بين الجزائر والصين، وتعامل كثير من التجّار الجزائريين مع ذويهم الصينيين.

أما ما يخصّ باقي اللغات فالانجليزية؛ لأنّها أصبحت لغة الأنترنت، والأعمال، والتكنولوجيا، والسفر. والإسبانية لقربها من اللغة الفرنسية، وسهولة تعلّمها، إلى جانب الشعبية الواسعة للمسلسلات الإسبانية. ثم التركية؛ بسبب تأثير المسلسلات، والتوجّه الثقافي نحو تركيا، إضافة إلى فرص الدراسة هناك. أما الألمانية فلمن يخطّط للهجرة أو الدراسة في ألمانيا. والفرنسية، تضيف الأستاذة، تشهد تراجعا نسبيا، لكنّها ماتزال مطلوبة في بعض المسارات التعليمية والإدارية.

لكن لماذا الإقبال على الإنجليزية تحديدا؟

لفترة طويلة كانت الفرنسية تحتكر فضاء التعليم الرسمي والإداري في الجزائر، لكنّها، اليوم، تجد نفسها في مواجهة خصم صاعد بقوّة؛ اللغة الإنجليزية، التي فرضت وجودها خارج الفصول؛ عبر الأنترنت، والمحتوى الرقمي، والموسيقى، والأفلام، والدورات التعليمية المفتوحة، ليس ذلك فقط، وإنّما رغبة سياسية فرضت التخلي عن لغة الاستعمار، والتوجّه نحو توجّهات العالم، واستبدالها بلغة عالمية أكثر انتشارا، وهي الانجليزية.

وفي هذا الصدد، قالت أمينة زاوي، أستاذة لغة إنجليزية بجامعة الجزائر تقدّم، هي الأخرى، دروسا مكثّفة في اللغات، إنّ التحوّل من الفرنسية إلى الإنجليزية لم يكن نتيجة قرار سياسي فقط، بل خيار فردي، اتّخذه الشباب بأنفسهم؛ لانتشار جيل جديد يستهلك المحتوى الرقمي عبر مواقع التواصل؛ "يوتيوب"، و "تيك توك"، و " أنستغرام" ، و«فيسبوك" وغيرها من مواقع أخرى كلينكدين، وسناب شات، وغير ذلك. حيث الإنجليزية هي القاعدة.

وعدم فهمها يُعدّ في حدّ ذاته، إعاقة كبيرة، تُحبط، غالبا، فرصة التقدّم والتطوّر في هذا العالم. ولم يعد مقنعا للشباب أن يتقنوا لغة محلية التأثير بينما العالم يشتغل بلغة أخرى. كما إنّ البعض لم يعد يكتفي بالتحكّم في لغة واحدة بل ثلاث وأربع وحتى خمس، هي ما يصبو إليه البعض، لا سيما أنّ الجزائري بطبيعته منذ سنوات، يتحكّم، على الأقل، في لغتين وحتى أكثر؛ العربية، والأمازيغية، والفرنسية، والإنجليزية، " وحتى الدارجة التي يبدو أنّها أصبحت في حدّ ذاتها، تحكمها قواعد "الشارع" إذا أمكن وصفها، تختلف بعض كلماتها عن العربية والفرنسية والأمازيغية تماما، ولا يفهمها إلاّ الجزائري ".

هذا الواقع فرض تحديات على مؤسّسات الدولة التي كانت تدرّس الفرنسية كلغة ثانية. ثم أعيد قبل فترة تقييم موقعها الاستراتيجي في التعليم. وفي المقابل، خلق ذلك فرصا كبيرة للقطاع الخاص، الذي بدأ يسدّ الفجوة بتكوينات حديثة وتفاعلية، تعتمد على الوسائط المتعدّدة؛ المحادثة الواقعية، وحتى التعلّم عبر الألعاب، والمسرح. وشدّدت المتحدثة على أنّ تعلّم اللغات بالنسبة للشباب الجزائريين اليوم، ليس نشاطا جانبيا، بل استثمار شخصي طويل الأمد، وهو، أيضا، تعبير عن رغبة عميقة في الانفتاح، وكسر الحواجز، واستعادة القدرة على التحكّم في المستقبل بلغة يفهمها العالم.

وفي بلد يعيش 70% من سكانه تحت سن الأربعين، يبدو أنّ مدارس اللغات الخاصة لم تعد مجرّد مشاريع تجارية، بل تحوّلت إلى مؤسّسات تلعب دورا مهمّا في إعادة تشكيل وعي الجيل الجديد وطموحاته؛ بتفتّحه على أكثر من لغة، وتحويلها إلى سلاح معرفي، قد يميّزه عن غيره، خصوصا أنّ كثيرا من الدول لا يتقن شعبها إلاّ لغة واحدة.