وعدة سيدي محمد بن عودة

مدرسة التكافل الاجتماعي والتسابق للخيرات

مدرسة التكافل الاجتماعي والتسابق للخيرات
وعدة سيدي محمد بن عودة
  • 2529

بعد موسم فلاحي متميز، تعود وعدة الولي الصالح سيدي امحمد بن عودة بغليزان هذه السنة، حيث دأب سكان المنطقة على تنظيمها منذ أزيد من خمسة قرون، مع بداية كل فصل خريف أي بعد جمع المحصول الفلاحي، وتعتبر من بين أهم التظاهرات الكبرى التي تشهدها المنطقة.

يسبق التحضير لهذه الوعدة إقامة جملة من وعدات أعراش قبيلة فليتة المشكلة من 25 عرشا ومنها وعدات وادي سلام وسيدي لزرق وسيدي سعادة لتشد بعد ذلك فروع القبيلة الرحال ثلاثة أيام قبل الموعد باتجاه مقام الولي الصالح سيدي امحمد بن عودة، لنصب الخيم التي تتم وفق مخطط كل عرش.

ومن تقاليد هذه الوعدة، التي تدوم إلى غاية يوم الجمعة القادم، أن يشرع في خياطة الخيمة التي تضم قطع القماش المنسوج من الوبر الخام، والتي تمثل كل واحدة عرشا وتتنافس فروع فليتة على نقل الخيمة ونصبها في جو بهيج ممزوج بالأهازيج وأصوات ضرب العصي وزغاريد النساء، ليفسح المجال للفرق الفلكلورية التي تمتع الحاضرين بنغمات الزرنة والقصبة وقرع الطبول.

وبهذه المناسبة، تم تزيين القبة التي بها ضريح الولي الصالح، والتي يقوم بها مجموعة من حفظة القرآن الكريم بتلاوة آيات من  الذكر الحكيم، والتي بها يتم فك النزاعات القائمة وغيرها، حيث يحظى هذا المقام بزيارة عشرات الآلاف من المواطنين الذين يأتون من كل أنحاء الوطن وحتى من خارجه.

تسابق على الضيافة

وتتميّز وعدة سيدي امحمد بن عودة بتنافس أهل البلدية التي تحمل اسمه على إطعام الزوار، كما تقام ألعاب الفروسية وطلقات البارود التي تجلب الكثير من المتفرجين، ويتم خلالها استعراض أحسن فرس من كل عرش إلى جانب تنظيم سوق الربح التي يقتني منها الزوار مختلف المنتجات.

وككل سنة ومع نهاية موسم الحصاد والدرس، تشرع قبائل فليتة، خمس خماس في التحضير لوعدة الولي الصالح سيدي محمد بن عودة، الأب الروحي لمنطقة مينا غليزان، وعروش فليتة، وهي الوعدة التي دأبت فليتة على إحيائها كل سنة، رغم المصاعب التي واجهت المنطقة خلال العشرية السوداء، حيث تقام وعلى مدار خمسة أيام كل مراحل الوعدة بحضور الزوار من كل مناطق الوطن، حيث تكرمهم  العائلات الفليتية بحسن الضيافة لما تعرف به هذه العائلات من كرم وجود.

خمس خماس.. الأب الروحي لفليتة

سيدي محمد بن عودة هي بلدية الولي الصالح والأب الروحي لقبيلة فليتة خمس خماس، والذي أخذت اسمه بلدية ذات طابع ريفي فلاحي تتربع على مساحة تقدر بـ289 كلم مربع، تتشكل من الجبال والسهول وتشتهر البلدية بثاني أكبر سد في الولاية، وهو سد السعادة، الذي دشنه الرئيس الراحل هواري بومدين.

تتشكل البلدية من سكنات متلاصقة ذات طابع عمراني قديم يحكي تآلف الأسر الجزائرية، كما تنتشر سكنات ريفية بالتلال وكذا على امتداد طول وادي مينا، خاصة البنايات التقليدية المغطاة بالقرميد التي أعطت للمنطقة، منها قرى ومداشر يازرو، خشاب، العناترة وخلوق، طابعا مميزا، حيث يظهر أن هذه البنايات شيدت بطابع خاص لتلبية حاجة سكان المنطقة الفلاحية لجمع الحبوب وتخزينها بالطرق التقليدية وكذا تربية المواشي والاستعانة بمنتوجاتها من الصناعات التقليدية ومنها ممارسة بعض الزراعات الموسمية وهذا بالاستعانة بمياه سد السعادة.

ويبلغ عدد سكان البلدية أكثر من 7 آلاف نسمة، حيث يحيي سكان المنطقة وكذا باقي أعراش فليتة خمس خماس، طيلة أسبوع، تظاهرة الولي الصالح سيدي محمد بن عودة أحد أولياء الله الصالحين في جو بهيج تتداخل فيها العادات والتقاليد من جهة ومن جهة أخرى تبرز الجود والكرم لأهل المنطقة رغم أنه مر على وفاة الولي الصالح أكثر من خمسة قرون إلا أنه لا زال حيا في القلوب.

 

زاوية علم وملئ للفقراء

عاش الولي الصالح سيدي امحمد بن عودة في القرن الـ16 ميلادي، إذ ولد سنة 972 هجرية بنواحي وادي مينا وتوفي 1034 هجرية، وسمي أمحمد بن عودة نسبة إلى مربيته عودة بنت سيدي أمحمد بن علي المجاجي وهي عالمة متصوفة، كما عرف عنه أنه كان عالما وأسّس زاوية للعلم ومأوى للفقراء وعابري السبيل، وتفيد المصادر التاريخية أن سيدي امحمد بن عودة اشتهر بجهاده ضد المحتلين الإسبان في تنس ومزغران والمرسى الكبير وقد أمر الباي محمد الكبير ببناء قبة على ضريحه تخليدا له.

ويتم الإعلان عن موعد الوعدة بعد اجتماع مشايخ الفروع والعروش الـ25 المكونة والمؤسّسة لقبيلة فليتة حيث تقوم بالإعلان فرقة من الرجال يحملون عمودا كبيرا يسمى الركيزة، وهي عبارة عن عمود خشبي كبير يستعمل فيما بعد دعامة أي ركيزة لإحدى الخيم، وتجوب الفرقة المدن والقرى والمداشر أيام الأسواق الأسبوعية لتعلن موعد الوعدة، عن طريق التهليل المصحوب بأنغام الغايطة والبندير، وكذا روائح البخور، وعند مرورهم بالشوارع بمنحهم المواطنون التبرعات من المال والمحارم المرشوشة بالعطور في وقت تقوم فرق أخرى من المشايخ والأعلام بإعلام المواطنين بتاريخ الوعدة بواسطة البراح، سواء وسط المدن الكبرى كعاصمة غليزان أو بالأسواق الأسبوعية للقرى والمداشر وكذا ببعض مدن الولايات المجاورة.

يسبق وعدة الوالي الصالح سيدي محمد بن عودة العديد من الوعدات التي تقام عبر العديد من بلديات وقرى ومداشر منطقة فليتة، منها على وجه الخصوص ما يسمى بطعم الشيخ بن عيسى بالرحوية بولاية تيارت وطعم وادي السلام وكذا طعم سيدي لزرق إلى غيرها من المناسبات والوعدات، وبعد الإعلان عن وعدة سيدي محمد تشد أعراش وفروع قبيلة فليتة الرحال إلى سيدي محمد بن عودة ثلاثة أيام قبل انطلاق الوعدة، وهي عادة متأصلة منذ القدم بسبب انعدام وسائل النقل قديما، وفور الوصول تشرع القبائل في نصب الخيم وهذا وفق مخطط مضبوط لكل قبيلة لاستقبال الضيوف في حين تشرع النساء في تحضير الطعام ووجبات الوعدة حيث من الممكن أن يقدم في أي لحظة يصل فيها ضيف.

خيمة لكل الأعراش

يوم هذا الموعد تكون قبيلة فليتة خمس خماس بأعراشها الـ25 كلها حاضرة، بالإضافة إلى الزوار من كل مناطق الوطن ويتم إطعامهم وإيواؤهم من طرف سكان القرية وأعراش قبيلة فليتة المعروفين بكرمهم، كما تكون القبة التي تحتضن ضريح الوالي الصالح سيدي محمد بن عودة قد تم تزيينها من الداخل وطلاؤها من الخارج ويكون الضريح مزركشا بالأقمشة والمحارم ويتشكل حوله مجموعة من حفظة القرآن الكريم يتلون كتاب الله، وفي الخارج حول القبة يلتف الزوار في حلقات للمبارزة بالعصي في جو تنشطه الفرق الفلكلورية البدوية والمدادحة والقوالة والقرقابو وغيرها من الفرق.

وفقا لأعراف المنطقة والقبيلة المتوارثة منذ حوالي خمسة قرون خلت، يتم يوم الأربعاء خياطة الخيمة، حيث يتم ضم قطع الخيمة وخياطتها من طرف الحضور وتكون هذه الأجزاء من الوبر الخام، وتمثّل كلّ واحدة أو كل جزء عرشا من أعراش القبيلة ويتم ذلك في مشهد شيق يعبر عن توحد صفوف القبيلة ويرمز إلى التآزر بينها عند كل طارئ.

بعد ذلك، تتنافس أعراش وفروع فليتة في مشهد تلقائي عجيب على نقل الخيمة ويحاول كل عرش الظفر بالخيمة ونصبها في منافسة حميمية في مبارزة بالعصي وفي جو ممزوج بالصياح وأصوات ضرب  العصي على الخيمة والمبارزة وزغاريد النساء، ولا يهدأ الحال حتى تنصب الخيمة، بعدها يفسح المجال للفرق الفلكلورية التي تمتع الحاضرين بنغمات الزرنة وألحان القصبة والناي ودقات الطبول وتهاليل الحضرة.

مع حلول وقت الغذاء، يتنافس أهل فليتة وأهل بلدية سيدي محمد بن عودة على إطعام الزوار وفي هذا اليوم كباقي الأيام بالكسكسي الذي يقدّم في جفان كبيرة الحجم مرصوصة باللحم ومزينة بالبيض والزبيب والعنب حيث يتباهى كل شخص بإطعام ضيوفه.

بعد نصب الخيمة وتناول الغذاء، يشرع الزوار في زيارة عدة أماكن مستحبة للزيارة منها حجر الباز الذي يعتبر أول مقصد يتوجه إليه الزوار، حيث يتسلقون جبلا صخريا للوصول إلى القمة ليتمكّنوا من المرور بالحجرة الباكية وبعدها الوصول إلى قبة الوالي الصالح سيدي عبد القادر، يعرج بعدها الزوار على منبع المالحة وذلك لملوحة المياه وفيه يغتسل الزوار ويتوضأون ثم ينتقلون إلى العبادة وهي عبارة عن مغارة يجتمع بداخلها يوم الوعدة الطلبة لترتيل القرآن الكريم تيمنا بالوالي الصالح الذي كان يتخذ من المكان فضاء للتصوف والعبادة.

القادة للفروسية.. والسوق للربح

في القادة يتم قيادة واستعراض خصال وروعة فرس عن كل عرش، وفي ذلك إشارة لانطلاق ألعاب الفروسية والتباهي بالفرسان الذين يلبسون أحلى الملابس التقليدية، العمامة التوتية، القيط، الكلاح البرنوس، الخف والسروج المطرزة وغيرها من ملابس الفرسان الذين يحجون إلى الوعدة من كلّ ربوع الوطن، حيث يصل عددهم أحيانا إلى الـ500 فرس أو أكثر وكذا مستلزمات الخيول، وفي أثناء ذلك وخلال هذه الألعاب تسمع عيطة واحدة من طرف قائد العلفة وهي مجموعة الخيول، وتكون هذه العيطة بمثابة إيعاز لانطلاق الخيل في سباق من الفروسية وإطلاق البارود دفعة واحدة، وفي انسجام وتنافس كامل، حيث لكل علفة طلقتها ولكل عرش فرسانه وخيوله وأشعاره التي يرددها قائد العلفة.

موازاة مع ذلك، يجتمع المشايخ في حلقة تسمى سوق الربح وهو مكان رحب لجمع التبرعات من صدقات، كما يتم داخل الحلقة حل النزاعات وتوحيد الاعراش والدعاء بالخير والبركة والربح للجميع وبالشفاء للمرضى وقضاء الحاجة وبين العاب الفروسية وسوق الربح يتفرّغ الزوار لاقتناء ما لذ وطاب من المنتوجات المعروض للبيع ومنها الحلويات التقليدية والمؤونة والملابس والأواني التقليدية من الفخار والفواكه والتين المجفف والرمان والخروب وغيرها من المعروضات الموسمية في جو يتميّز بالتنظيم من كل الجوانب من طرف السلطات المحلية، خاصة الجانب الأمني الذي يشكّل أحد الاهتمامات الرئيسية للسلطات المحلية نظرا للكم الكبير من الزوار من مختلف ولايات الوطن.

وبعيدا عن الاحتفالات، وحسب بعض المشايخ، فإنّ المزارات التي توجد في محيط الولي الصالح سيدي محمد بن عودة تمثل أماكن ومزارات، كان الولي الصالح يعلم من خلالها الطلبة الذين كان يدرسهم القرآن وأصول الفقه ومناسك الحج بالنسبة للأشخاص المتوجهين إلى البقاع المقدسة لأداء مناسك الحج في صورة بسيطة تمكن الحاج من الحفظ والإلمام بمناسك الحج إلا أنه لم يبق لهذه الطريقة اليوم أي أثر وأصبحت المزارات اليوم مرتبطة بروايات أخرى لا تمت لرسالة الوالي الصالح بصلة.

نور الدين واضح