أسواق عنابة الشعبية
مرآة للهوية وقِبلة للحرف التقليدية

- 167

ارتبطت الحياة اليومية في عنابة بأسواقها الشعبية، فكانت مرآة تعكس وجدان المدينة وروحها المتجددة، تعرف شوارع مدينة عنابة مع كل فجر، حركةً نابضة، تتزاوج فيها الأصوات والروائح والملامح، مشكلة مشهدًا شعبيًا متكاملًا، لا تخطئه عين الزائر ولا تغفله ذاكرة السكان. في قلب هذا النسيج، تحتل الأسواق الشعبية مكانة مركزية، فهي ليست فقط أماكن لاقتناء الحاجيات، بل أيضًا فضاءات للتفاعل الاجتماعي، وتبادل القيم، والتعبير عن عمق الانتماء المحلي.
فمن سوق الحطاب إلى سيدي سالم، وشنطاطا، وعين الباردة، وسوق برحال، تمتد هذه الأسواق العتيقة لتخترق الزمن، حاملة معها عبق الماضي، واحتياجات الحاضر، وهموم المواطن اليومية، خصوصًا في المواسم الدينية والدخول المدرسي.
سوق الحطاب.. ماضٍ عريق وحاضر متغير
يرتبط اسم سوق الحطاب، في ذاكرة العنابيين، بالبساطة والبركة، فهو سوق قديم يعود إلى ستينات القرن الماضي، حين كانت العربات التي تجرها الخيول تمر بين خاناته، وكان كل شيء يتم في نظام وتقدير، بتسيير من القائمين عليه، الذين عرفوا بتفانيهم. حمل السوق اسمه من سيدي الحطاب، أحد أولياء المدينة، الذي لا تزال قبته تُقابل السوق في هدوء، شاهدة على تبدلات الزمان والمكان.
توارث الناس في عنابة، الاعتقاد بأن البركة كانت تسكن هذا السوق، وكان ملاذًا للفقراء وذوي الدخل الضعيف، يأتون إليه لشراء اللحم والجبن والأسماك والفواكه والخضر، في موسم الفرح أو الضيق. لكن، مع مرور الوقت، وتغير النفوس، كثرت الشكاوى من الغش، وارتفاع الأسعار، والجشع، وفوضى العرض، ما أفقد السوق شيئًا من أصالته ودفئه. ورغم الترميمات التي قامت بها بلدية عنابة، لم يستعد السوق مجده السابق، بل أصبح كثير من السكان يفضلون التوجه إلى أسواق مغطاة، مثل "مارشي الحوت" الذي تميز بثبات بنيته التنظيمية، واستقرار نشاطاته.
الأسواق الأسبوعية.. زحمة البيع وذاكرة الجيوب
تعتبر الأسواق الأسبوعية، مثل سوق شنطاطا، وعين الباردة، وسوق برحال، محطات تجارية أساسية، يلتقي فيها سكان الأرياف والمدينة، في تفاعل حي وحيوي. فكل يوم سوق في هذه المناطق يتحول إلى مهرجان شعبي، تتداخل فيه روائح التوابل، وصيحات الباعة، وهمسات العائلات المتجولة.
أسواق يعرض فيها كل شيء
من الخضروات الطازجة والفواكه الموسمية، إلى الملابس الجاهزة والمستعملة، إلى أدوات التنظيف والزينة، والكتب والمحافظ والأقلام، بمناسبة الدخول المدرسي. لا تخلو الطاولات من بهارات متنوعة، مثل الفلفل الأحمر، الكروية، الكركم، الزنجبيل و«الفريك"، وكل مستلزمات المطبخ العنابي. كما يُلاحظ في فصل الخريف، التوافد الكبير على التمور، حيث يتم عرض عشرات الأنواع من التمور الجديدة، التي تُعد جزءا من هوية المائدة العنابية.
الدكاكين.. نبض الأسواق وروح الحِرفة
داخل هذه الأسواق، تشكل الدكاكين الصغيرة عالما متكاملًا، يروي تفاصيل الحياة اليومية. ففيها، محلات الجزارة، حيث يُمارس الجزارون مهنتهم بحرفية، ويُكوّن الشباب أنفسهم من خلال التدرب على التقطيع والعرض، في مزيج من الحداثة والتقليد.
محلات الإسكافي، حيث يتردد الزبائن لإصلاح أحذيتهم، بدلًا من شراء الجديد، في مشهد يختزل ثقافة الاقتصاد والتقدير. محلات الحلواجي، التي تُقدم "الزلابية، والمقرود المقلي، والمقرود العنابي، والسفنج الساخن" الذي يُباع مع كأس شاي أو قهوة. محلات الحلاقة التقليدية، التي تُقدم خدماتها في أجواء بسيطة دافئة، حيث لا يزال المقص يدويًا، والزبون وفيا للحلاق الذي يعرفه منذ سنين. هذه الدكاكين ليست فقط أماكن عمل، بل هي مدارس اجتماعية، يتعلم فيها الجيل الجديد الصنعة، والجد، والاحترام.
الخردوات والأجهزة المستعملة.. سوق لا يعرف الكساد
تتميز الأسواق الشعبية أيضا، بركن خاص يُعرف بسوق الخردوات، حيث يُعرض كل ما يخطر على البال من؛ المسامير والمفكات والآلات الكهرومنزلية المستعملة، إلى الهواتف النقالة القديمة وأجهزة الراديو وأثاث متنوع، وحتى لباس وتجهيزات العرسان بأسعار مناسبة. هذا الركن لا يستهان به، إذ يقدم حلولًا للباحثين عن أدوات نادرة أو قطع غيار، أو ببساطة عن شيء يناسب قدرتهم الشرائية.
الأسواق الشعبية.. فضاء اجتماعي قبل أن تكون تجاريا
لا تقف وظيفة الأسواق الشعبية عند البيع والشراء، بل تمتد لتُشكل نسيجًا اجتماعيًا حيًّا. فهي أماكن تُبنى فيها علاقات الجيرة، وتتجدد فيها روابط الأخوة، ويُمارس فيها التضامن بشكل يومي، كثير من الزبائن يُعرفون بالاسم من طرف الباعة.
تصدق على المحتاجين دون طلب
تنظَّم مساعدات غير رسمية، حيث يتكفل بعض أصحاب المحلات بتقديم حاجيات العائلات المعوزة مجانًا، أو بأسعار رمزية. هنا، الناس لا يشترون فقط... بل يتحدثون، ويسألون، ويطمئنون على بعضهم البعض، وكأن السوق ليس سوى امتداد لبيتهم الكبير. الأسواق الشعبية في عنابة ليست مجرد فضاءات لعرض البضائع، بل هي مراكز ثقافية، اجتماعية، وروحية، تحفظ جزءًا كبيرًا من هوية المدينة.
صحيحٌ أن الزمن غير الكثير من معالمها، وأن مظاهر الفوضى والجشع شوهت شيئًا من صورتها القديمة، لكنها تظل الملاذ الأول لكل من يبحث عن الدفء الإنساني، أو الأسعار المناسبة، أو رائحة الأجداد. ويبقى الأمل في أن تعود هذه الأسواق إلى سابق عهدها، بتنظيم أفضل، ودعم الحرفيين، واحترام الزبون، حتى تظل نابضة بالحياة، شاهدة على أن المدينة التي تكرم سوقها، تكرم ذاكرتها وجذورها.