عنابة
مفتشو المقابر.. بين داعم ومستنكر

- 156

ظهرت خلال الآونة الأخيرة في ولاية عنابة، ظاهرة مثيرة للجدل، تمثلت في انتشار صور ومقاطع فيديوهات عبر مواقع التواصل الاجتماعي تُظهر أشخاصًا يُعرفون بـ«مفتشي المقابر"، يقومون بنبش القبور والبحث بين رفات الموتى عن أعمال سحرية مدفونة، ثم يعمدون إلى عرض ما يعثرون عليه أمام الكاميرات، ونشره على الإنترنت. هذه الممارسات أثارت موجة من الانقسام المجتمعي؛ حيث رأى فيها بعض المواطنين محاولة لتطهير المجتمع من السحر والشعوذة، في حين اعتبرها آخرون استغلالًا للمآسي ونشرًا للخرافات، بل ومساسًا بحرمة الموتى.
الحادثة التي وقعت في مقبرة سيدي سالم، خلال ثاني أيام عيد الفطر، والتي تم فيها العثور على طلاسم وأغراض غريبة موضوعة أمام أحد القبور، خلّفت حالة من الغضب والذهول بين المواطنين، وطرحت تساؤلات حول هوية من يقف وراء مثل هذه الأعمال، ومدى احترام حرمات المقابر. هذا الغضب تفاقم بعد انتشار الصور ومقاطع الفيديو، التي اعتبرها البعض نوعًا من الإثارة الإعلامية والرغبة في الشهرة الرقمية، أكثر منها جهودًا صادقة لمواجهة السحر والشعوذة.
وفي حادثة أخرى، لاقت استنكارًا واسعًا، تم توقيف شخص يدّعي أنه راقٍ شرعي، بعد محاولته نبش قبر امرأة في مقبرة سيدي قاسي بولاية الطارف، بحجة إخراج جثتها لإبطال سحر مزعوم. هذا التصرف الذي اعتبره كثيرون انتهاكًا صارخًا لحرمة الموتى، أظهر بوضوح كيف يتم أحيانًا استغلال المعتقدات الشعبية من قبل بعض الأشخاص لتحقيق أهدافهم الخاصة، سواء مادية أو متعلقة بالشهرة.
تباينت آراء سكان عنابة حول هذه الظاهرة، إذ أن هناك من رأى فيها ضرورة لمحاربة السحر والشعوذة المنتشرة في بعض الأوساط، واعتبر أن إزالة هذه الأعمال المدفونة واجب شرعي، لكنهم في الوقت ذاته عبّروا عن رفضهم القاطع لتوثيق هذه العمليات ونشرها على فيسبوك وغيرها من المنصات، معتبرين ذلك تشهيرًا وانتهاكًا للخصوصية، ووسيلة لإثارة الرعب بدلاً من المعالجة الجادة للمشكلة.
وفي مقابل هذا الرأي، حذّر باحث اجتماعي من خطورة الظاهرة، مشيرًا إلى أنها تُمثل خلطًا واضحًا بين الدين والخرافة، وأضاف أن غياب الوعي الديني والاجتماعي يجعل الناس يصدّقون كل ما يُنشر على الإنترنت، داعيًا إلى ضرورة تدخل الجهات الرسمية وحدها في مثل هذه الأمور، لأن التعامل مع قضايا حساسة كالسحر يحتاج إلى إشراف مؤسساتي، لا إلى أفراد يحملون فؤوسًا وكاميرات.
تزامنًا مع تزايد الحديث عن أعمال السحر وانتشارها، أعلنت وزارة العدل في وقت سابق عن إدخال تعديلات جديدة على قانون العقوبات، بموجب القانون رقم 24-06 الصادر في 28 أفريل 2024، حيث تم تشديد العقوبات على كل من يمارس أو يروّج لمثل هذه الأعمال، لتصل إلى عشر سنوات سجن، مع فرض غرامات مالية تصل إلى مليون دينار جزائري، في محاولة للحد من الظاهرة وتجفيف منابعها.
في الوقت الذي يرفع فيه البعض شعار "تطهير القلوب" و"حماية المجتمع من السحر والشعوذة"، يكشف الواقع عن استغلال متزايد لمنصات التواصل الاجتماعي لنشر الذعر، أو تحقيق مكاسب شخصية تحت ستار النية الحسنة. وبينما قد تبدأ بعض هذه المبادرات من منطلق الإيمان بدور فردي لمحاربة الشر، فإن غياب التأطير المؤسسي والتوجيه الديني والاجتماعي الرشيد، يجعلها تنزلق بسرعة نحو فوضى رقمية تُنتهك فيها حرمة القبور، وتُستغل مشاعر الناس لتحقيق الشهرة والانتشار.
وفي خضم هذا الجدل، يظل السؤال مطروحًا بقوة: هل نحن أمام مبادرة مجتمعية صادقة تستند إلى وعي جمعي لمواجهة ظاهرة السحر فعليًا؟ أم أننا نشهد موجة عاطفية تنبع من الخرافة وتتغذى على "اللايكات" والمشاهدات، في غياب العقلانية والضوابط القانونية والأخلاقية؟
أعادت لعنابة جاذبيتها
"خرجة المدينة".. احتفاء بالعيساوية والزي التقليدي
في قلب مدينة عنابة حيث يتناغم معمارالأزقة القديمة مع عبق التاريخ والحضارة، انطلقت مبادرة ثقافية وفنية متميزة حملت عنوان "خرجة المدينة"، جاءت لتُعيد إلى المدينة شيئًا من بهائها الضائع، عبر رمزين من رموز هويتها العريقة: العيساوة واللباس التقليدي. رئيس فرقة العيساوة "جوق المدينة"، عبد الوهاب حملاوي، كان من أبرز الوجوه التي وقفت وراء هذا الحدث، واضعًا نصب عينيه هدفًا واحدًا: صون الذاكرة الشعبية لعنابة وتثبيت حضورها في الوجدان الجماعي.
المبادرة لم تكن مجرد استعراض فولكلوري أو احتفال عابر، بل كانت تعبيرًا حيًا عن ارتباط أبناء المدينة بجذورهم، وتجسيدًا لروح الفن الصوفي العميق الذي تمثله العيساوة، تلك الفرقة التي طالما كانت جزءًا من المشهد الروحي والثقافي للمنطقة. يقول حملاوي إن هذه الخرجة جاءت استجابةً لحاجة ملحة إلى إعادة إحياء مظاهر الأصالة في زمن بات فيه التراث مهددًا بالتآكل والنسيان، لا سيما في أوساط الأجيال الجديدة.
الخرجة تميزت بمشاركة واسعة من أبناء المدينة، رجالًا ونساءً، شيوخًا وشبابًا، جميعهم ارتدوا اللباس التقليدي العنابي، الذي يعد في حد ذاته تعبيرًا بصريًا عن هوية المدينة. مشهد السير الجماعي في شوارع المدينة القديمة، على وقع الإيقاعات الروحية للعيساوة، كان كفيلاً بإثارة مشاعر الفخر والحنين في نفوس من حضروا أو صادفوا الحدث.
عبد الوهاب حملاوي شدد على أن هذه المبادرة ليست الأولى ولن تكون الأخيرة، بل هي خطوة ضمن مشروع ثقافي متكامل يهدف إلى جعل الفعل التراثي جزءًا من الحياة اليومية في عنابة. وأكد أن نجاح الخرجة في استقطاب اهتمام المواطنين والإعلام، هو دليل على حاجة المجتمع العنابي إلى مثل هذه الأنشطة التي تعزز الانتماء وتخلق حوارًا بين الماضي والحاضر.
اللافت في هذه الخرجة أنها لم تُقدَّم بوصفها مجرد فلكلور يُستعاد، بل كانت تجربة معاشة، وطقسًا جماعيًا نابضًا بالروح، يجعل من الذاكرة الجماعية حاضرة بكل قوتها، ومن التراث مادة للفرح والتفاعل، لا مجرد ذكرى. من خلال هذه المبادرة، أثبتت عنابة مرة أخرى أنها مدينة لا تنسى جذورها، وأن أبناءها يحملون في قلوبهم حبًا لا يفنى لهويتها، مؤكدين أن الفن، عندما ينبع من عمق الذاكرة ويُقدَّم بروح معاصرة، يمكنه أن يعيد للمدن مجدها وللشعوب ثقتها في ذاتها.