عولة الصيف في عنابة
موسم الطماطم ونكهات الزمن الجميل

- 142

تعود الحياة إلى المطابخ العنابية، مع مطلع جويلية من كل عام، ليس فقط بوصفها فضاءً يوميًا للطبخ، بل كورشة مفتوحة لتحضير المؤونة، وتحويل خيرات الصيف إلى مدخرات للشتاء ورمضان المقبل. تبدأ الحكاية حين تبدأ الأسعار بالانخفاض، وتفيض الأسواق بالفواكه والخضر الموسمية، فتتحول البيوت إلى معامل مصغرة، تعج بالرائحة واللون والحركة، فيما تنشغل النساء بترتيب ما يشبه طقسا سنويا لا يغيب عن تقاليد الأسر العنابية.. تحضير "العولة".
أقبلت نساء عنابة هذه الأيام، على تحضيرات موسمية تقليدية، تعكس حيوية الصيف وارتباط المرأة العنابية العميق بمخزونها الغذائي، حيث بادرن إلى تحضير معجون الطماطم المنزلي، مستفيدات من وفرة المنتوج وانخفاض سعره، الذي لم يتجاوز 50 دينارا للكيلوغرام، في مشهد يعكس ذكاء عمليا وحنكة نسوية موروثة.
تحولت المطابخ إلى فضاءات عمل حقيقية، وأواني الطهي الكبيرة لم تعد تُستعمل لإعداد الطعام اليومي، بل لمعالجة كميات كبيرة من الطماطم، تُغسل، تُقطع، تُغلى، ثم تُصفى وتُطهى من جديد حتى تكتسب كثافتها المعروفة. تعب وجهد يمتد لساعات طويلة في جو خانق بفعل حرارة الصيف، لكن الرضا لا يغيب عن الوجوه، فلكل خطوة غايتها، ولكل مرطبان قصة تُروى على مائدة الشتاء.
وإلى جانب الطماطم، لا تقل باقي الفواكه الموسمية حضورا على طاولة التحضيرات. إذ يُستغل موسم العنب، البرقوق، التين، المشمش، وحتى البطيخ، في صناعة معجون طبيعي ومربيات تُخزن في قوارير زجاجية تحفظ النكهة، وتُستعمل لاحقا كزينة للمائدة أو مكون للأطباق والحلويات. الكرز على وجه الخصوص، كان نجم هذه الصائفة بامتياز، بعد أن سجل وفرة غير معتادة، رافقتها أسعار منخفضة جعلته في متناول الجميع، الأمر الذي شجع النسوة على تجفيفه، وتحويله إلى معجون أو عصير يُحفظ في المجمد.
وتقول بعض ربات البيوت، إن هذه العادة ليست فقط اقتصادية، بل وسيلة لضمان الجودة والتوازن الصحي للأسرة، خصوصا مع غلاء الأسعار في مواسم الذروة. لذلك، لا يترددن في تخصيص أيام كاملة لتحضير كل أنواع الصلصات والمواد الأساسية، مثل صلصة "البيتزا، الكاتشوب، الهريسة، وحتى البابريكا"، حيث يُجفف الفلفل الحار والحلو، ثم يُطحن ويُخزن في أوعية معقمة.
«نُحضر رمضان من الصيف"، تقول إحدى النساء وهي تقلب صلصة الطماطم بهدوء، مؤكدة أن ما تصنعه اليوم سيوفر عليها الكثير لاحقًا، سواء من ناحية المصاريف أو الجهد. وتضيف أن التجربة علمتها كيف تتوقع الغلاء وتتحايل عليه بأساليب تقليدية، أثبتت فاعليتها منذ زمن الجدات.
ورغم حرارة المطبخ، وساعات العمل الطويلة، إلا أن هذه التحضيرات تتم في أجواء مفعمة بالحيوية والتعاون العائلي. بعض النساء يقمن بها جماعيا، يتبادلن الوصفات والنصائح، ويخلقن من هذا الجهد فرصة للمة والفرح. فالعولة، في نهاية المطاف، ليست فقط مؤونة مادية، بل حافظة للذكريات، ومرآة للحنكة النسوية التي تحول المطبخ إلى ركن من أركان الصمود والابتكار.
في شوارع عنابة وأسواقها، تظهر المؤشرات بوضوح، كميات هائلة من الطماطم تُشترى بالجملة، عربات تفيض بالفواكه، وأكياس الفلفل تُحمل إلى البيوت، لتبدأ هناك مرحلة التحول إلى نكهات ومذاقات تحفظ الصيف وتختزنه في قارورات زجاجية... تُفتح لاحقًا على مائدة شتوية أو على سفرة رمضانية، فتروي قصة صيف صاخب بالحياة.
هكذا، لا تكون "العولة" مجرد تقليد، بل مشروعًا منزليًا متكاملًا تقوده النساء بصبر ودراية، يختزن بين طياته البعد الاقتصادي، والرمزية الثقافية، وروح الأسرة الجزائرية التي تعرف كيف تتأقلم، وتُبدع، وتحتفل بمخزونها العميق، رغم تغير الزمن وارتفاع التكاليف.