ماذا بقي من تراث الشيخ الرئيس بمدينة العلم والعلماء
الدعوة إلى إيفاء الرجل حقه
- 981
تحيي الجزائر يوم السبت المقبل "يوم العلم"، إحياء لذكرى وأثر الشيخ الرئيس الإمام عبد الحميد بن باديس، ولأنّ مدينة قسنطينة ارتبط اسمها بأب الحركة الإصلاحية، وكثيرا ما يقترن بعضهما ببعض، حاولت "المساء" معرفة "ما تبقى من فكر وتراث الشيخ ابن باديس في مدينة العلم والعلماء"، واتّصلت بعدد من الدكاترة الذين درسوا آثار الإمام وتعمقوا فيها.
الدكتورة فاطمة الزهراء قشي: الشيخ يستحق اسما كبيرا واحدا رمزيا
أوضحت الدكتورة قشي أنّه من الصعب الإجابة على هذا السؤال، وتساءلت "كيف يمكن أن نقيس ما بقي من تراث الشيخ إذا لم يكن لدينا مداخل متعددة لهذا التراث؟"، وواصلت مؤكدة أنّه من الناحية العلمية، وهي الناحية البحثية، لايزال تراثا ثريا وقويا، وكثير من الدراسات لا تزال تهتم بالشيخ ابن باديس لمساره بإنتاجه ومواقفه، سواء من قبل الباحثون بصفة عامة من قبل المواطنين ومن قبل مؤسسة ابن باديس التي تسعى إلى إظهار هذا.
وأضافت إذا أخذنا الأمر على المستوى العام، فتعيب أن يؤخذ اسم العلامة في كلّ صغيرة وكبيرة، وهذا قد يضلّل ويقلّل من شأنه أكثر مما يبرز قيمته، لأنّ هناك معهد ابن باديس، مركز ابن باديس، بلدية ابن باديس، ومؤسسات صغيرة ومتعدّدة قد تختلط على المرء، وقالت "ابن باديس يستحق اسما كبيرا واحدا رمزيا، وكفى لأنّ وجوده الروحي والعلمي والتراثي يكفي لهذا.. وهذا رأيي الشخصي".
وبالنسبة للتراث، أشارت الدكتورة قشي إلى أنّه لايزال في الحديث وجود مقام وشخصية ابن باديس وإرثه في التعليم والتربية، في ما يعرف عن قسنطينة بأنّها محافظة ومتديّنة، وبلاد العلم والعلماء، لكن لا يمكن أن تعرف هذا من سكان قسنطينة إلا مقارنة بمقام ابن باديس خارج المدينة ومن نظرة الآخرين، من بينهم الإعلاميون ممن يزورون المدينة، ويمكن أن يستشفوا مدى قوة ومكانة هذا الإرث في المواقف..الرجل كان حضريا، مثقفا، معلما، عالما، صحفيا وسياسيا..
الدكتور أحمد ساري: تراثه المادي ينال الاهتمام
من جهته، أوضح الدكتور ساري أنّ ابن باديس دافع عن عروبة وإسلام الجزائر ولولا جهود العلماء لما تراجعت فرنسا الاستعمارية عن سياستها الاندماجية، كما ساهمت جهود العلماء وابن باديس خاصة في إبعاد الجزائريين عن فرنسا، بالتالي تحضيرهم للثورة. وأضاف أنّه عموما، ساهم العلماء في الثورة كما ساهموا في بناء الاستقلال الوطني في ميدان التعليم والتربية والشؤون الدينية وفي مجال الثقافة العربية الإسلامية، أما عن ما بقي من تراث ابن باديس اليوم في قسنطينة مدينة العلم والعلماء والجزائر بصفة عامة، فأكّد الدكتور أنّ هذا التراث في شكله المادي والمعنوي، فالتراث المادي الذي أعيد نشر معظمه نال وينال اليوم الاهتمام المتزايد من قبل الباحثين والمهتمين، كما أنّ الدراسات والبحوث على مستوى كلّ المراحل متواصلة حول مواضيع الإصلاح والهوية الوطنية في مقاومة الاندماج ودراسة دور مختلف الشخصيات الإصلاحية والمواقف من الاستعمار الفرنسي... الخ، ومن الناحية المعنوية، هناك وعي كبير بالمجهود الكبير الذي قام به ابن باديس في الدفاع عن الأمة الجزائرية والهوية الوطنية الجزائرية.
الدكتور عبد العزيز فيلالي: لابدّ من تكييف فكره مع المرحلة الحالية
واعتبر من جانبه الدكتور عبد العزيز فيلالي، الحديث عن الإمام ابن باديس حديثا ذا شجون، لأنّ الرجل –حسبه- أرسلته العناية الإلهية في وقت مناسب لإخراج الجزائر من جهلها وأميتها، ولكن لم يلق العناية من الباحثين ولا من السلطات التي تعمل على إثراء تراثه وإعادة دراسته من جديد، لأنّ تلامذته كتبوا عنه قديما ولكن تبقى كتابة محدودة بعقلية تلك الفترة، والآن ظهرت أفكار جديدة، ولابدّمن تكييف فكره مع المرحلة الحالية. وأشار إلى الشيخ الرئيس رجل مصلح، مرب، مفسّر، مفت، شاعر أديب وسياسي محنك، وهذه الجوانب كلّها لا تزال غير مدروسة، وأوضح قائلا "في مؤسّسة عبد الحميد بن باديس منذ أربع سنوات تقريبا، قدّمنا حوالي 23 كتابا عنه، وحاولنا دراسة مختلف الجوانب للوصول إلى موسوعة، تتضمن مواهب الشيخ وجوانبه المتعدّدة، وخطوة وراء الأخرى سنصل للمبتغى".
وأضاف الدكتور فيلالي أنّ الشيخ أكّد أنّه يعيش للإسلام وللجزائر، وكان فكره يلازم كلّ وقت، وأفكاره مثمرة واستفاد وستستفيد منها الأجيال القادمة، لاسيما في العالم الإسلامي، فهذا الرجل – يوضّح الدكتور- المتسامح، الوسطي، عميق التفكير، مطّلع على ما كتب في العالمين الإسلامي والغربي وهذا جانب جديد وجدناه في الشيخ، مشيرا إلى الإمام درّس لمدة 10 سنوات، وهو بيداغوجي محنّك ويستعمل التربية قبل ملء الأذهان بالمعارف، مبدؤه التربية أولا، ثم العلم ثانيا، وتمكّن من تكوين جيل من النشء يحمل الفكر الإصلاحي، وبدأ العمل من مسجد سيدي لخضر، وأنشأ ملحقات له بسيدي قموش، التربية والتعليم، وغيرهما وكوّن هيئة أركان تعمل على نشر فكره الإصلاحي. واسترسل الدكتور بالإشارة إلى أنّ الإمام وضع خطة عمل قبل إنشاء جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، فيها عدة بنود من جملتها إنشاء المدارس، التدريس في المساجد ليلا نهارا وإنشاء النوادي الثقافية والرياضية والكشفية وأيضا الدينية، كما طلب التنقّل للتوعية من أجل إخراج الاستعمار من الجزائر، وكان من أكبر السياسيين المحنكين ولم يكن يفصح عن توجهه السياسي إلا لأقرب المقربين منه.
وعن صلاحية فكره، فأكّد أنّها تمتد إلى وقتنا هذا وإلى المستقبل، فالجزائر عربية أمازيغية مسلمة ولا أحد ينكر أنّ الجزائر أمازيغية، لكن عرّبنا الإسلام، وقال "نحن عرب بالإسلام وبالحضارة العربية الإسلامية، والأمازيع ساهموا كثيرا في نشر الإسلام وأثروا الحضارة العربية الإسلامية، والشيخ درس القرآن بمنهج جديد وفهم من خلاله هذه الحضارة، لهذا كان يطلب من طلبته الاجتهاد لا التقليد، واستعمال الفكر والعقل، وبالتالي فهو ليس مرجعية للجزائر فقط ولكن للعالم العربي الإسلامي كلّه، لتسامحه وبعده الإسلامي، وكتب لشيوخ الزيتونة والأزهر يطلب منهم إصلاح التربية والتعليم، ومن جملة ما طلبه منهم، تدريس الطلبة المتخرجين من قسمي الإفتاء والقضاء، الإدراك بالمذاهب حتى ينظروا للدنيا بمنظور إسلامي لا بمنظور مذهبي، وهذه الأفكار كانت تدرّس في الجامعات الإسلامية، وكان يحثّ طلبته على دراسة كل العلوم ليس فقط العلوم الشرعية خاصة اللغات الأجنبية بقيمنا لا بقيم الآخر، وكان يقول بأنّ الغرب بنى حضارته على أنقاض الحضارة العربية الإسلامية، وكيّفوها حسب نصرانيتهم، ونحن أيضا نأخذ من الحضارة الغربية ونكيّفها حسب قيمنا ومبادئنا.
وأضاف الدكتور أنّ مقاومة الإمام كانت ثقافية بامتياز، مؤكدا أنّ العين التي كان بنظر بها للغرب ووعيه بالثقافة الغربية يجهلها الكثيرون، وكان يدفع بطلبته لتعلّم اللغات، ومن الأبحاث التي قام بها الدكتور عبد العزيز فيلالي استنتج أنّ الإمام ابن باديس كان يحسن اللغات والفرنسية من بينها ويتقنها، لكن لا يتكلّم بها خاصة أمام المتحدثين بها يستعمل اللغة العربية اعتزازا بها. وأكّد الدكتور فيلالي أنّ لا أحد أعطى الرجل حقه، وقال ر«الإمام ظلم كثيرا، فمنهم من قال أنّه يساري وآخرون اعتبروا فكره خلال العشرية السوداء سبب البلاء، وهذا ليس صحيحا، لأنّ فكره كان وسطيا ينبذ العنف ويفتح الحوار، وهو بعيد كل البعد عن كل ما قيل عنه.