جبال الإيدوغ...
حارس أخضر لمدينة بونة

- 89

ارتفعت جبال الإيدوغ شامخة تحرس مدينة عنابة منذ آلاف السنين، فكانت عبر العصور حصناً طبيعيا، وسراً من أسرار ازدهار واحدة من أقدم مدن البحر الأبيض المتوسط. ولا يمكن الحديث عن عنابة دون التوقف طويلًا عند هذه السلسلة الجبلية التي تتربّع شمال غرب المدينة، وتمنحها مناخاً معتدلًا، ودرعاً واقياً من رياح الشمال العاتية، إلى جانب مساهمتها في تشكيل هوية طبيعية وسياحية فريدة.
تقع جبال الإيدوغ في الشمال الشرقي للجزائر، وتحتضن عنابةَ من جهتي الشمال والغرب، ما يمنح المدينة موقعا استراتيجيا بالغ الأهمية. هذا الموقع لم يكن محض صدفة في التاريخ، بل ساهم في جعل عنابة ملتقى حضارات؛ إذ وجدت بها الشعوب القديمة بيئة خصبة للاستقرار؛ من الفينيقيين إلى الرومان، فالوندال والبيزنطيين، وصولًا إلى الفتح الإسلامي، ثم العهد العثماني.
وتعمل الجبال كحاجز طبيعي أمام رياح الميسترال (Mistral)، وهي رياح باردة وشديدة قد تصل سرعتها إلى 120 كم/ساعة، معروفة بعنفها، وتأثيرها الكبير على المناطق المكشوفة من شمال المتوسط. وبفضل هذا "الدرع الأخضر" تنعم عنابة بمناخ متوسطي لطيف، جعلها منذ القدم موقعا مثاليا للزراعة، وخاصة زراعة الزيتون، والحمضيات، بالإضافة إلى الراحة، والاستجمام.
بيئة خضراء تحتضن التنوع البيولوجي
جبال الإيدوغ ليست مجرد تضاريس جبلية، بل تُعد من أغنى المناطق في شمال إفريقيا من حيث التنوع البيولوجي، حيث تمتد غابات الصنوبر والبلوط على مساحات شاسعة. وتحتضن عشرات الأنواع من الطيور والحيوانات، والنباتات النادرة. كما تُعد غابة الإيدوغ من أهم المحميات الطبيعية في الجزائر، وتشكّل ملاذًا لمحبي الطبيعة، وهواة المشي الجبلي، والتصوير. إضافة إلى ذلك، تنبع من سفوحها العشرات من الينابيع الطبيعية، التي ساهمت في ازدهار الزراعة، وتزويد السكان بالمياه العذبة منذ العصور القديمة، وهو عامل آخر عزّز من مكانة المدينة كمركز حضاري، وتجاري.
ملاذ حضاري وتاريخي
أعلى قمة في سلسلة الإيدوغ تمكّن من رؤية بانورامية تخطف الأنفاس لمدينة عنابة، وساحلها الذهبي، وخليجها الشهير. هذا المشهد الطبيعي الخلاب لم يكن غائبا عن أعين الرحالة والمؤرخين؛ فقد قال عنه العديد من الزوار، " من أجمل المناظر في الجزائر". ولأن الطبيعة كانت دوما حليفة الحضارة، فقد لعبت جبال الإيدوغ دورا مهمّا في حماية المدينة من الغزوات، حيث كانت مسالكها الوعرة ملجأ للمقاومين والثوار في مختلف مراحل التاريخ، خاصة خلال الحقبة الاستعمارية الفرنسية. كما ساهمت في الحفاظ على استقرار السكان في فترات الاضطراب؛ ما جعلها رمزا للمقاومة، والصمود.
وجهة سياحية بامتياز
في العصر الحديث أصبحت جبال الإيدوغ وجهة سياحية مفضلة لزوار عنابة، سواء من داخل الجزائر أو من خارجها. ويستطيع الزائر اليوم القيام بجولات مشي في الغابات، أو الاستمتاع بهدوء الطبيعة، أو زيارة المواقع الأثرية القريبة؛ مثل بازيليك القديس أوغسطين، التي تطل على المدينة من سفح الجبل. كما تزدهر المنطقة السياحة الإيكولوجية؛ حيث تسعى عدة مبادرات للترويج لجولات خضراء ومستدامة، تعرّف الزائر بخصوصية النظام البيئي للمنطقة، وتساهم في الحفاظ على هذا التراث الطبيعي الثمين.
وتُعد جبال الإيدوغ أكثر من مجرد مظهر طبيعي يزيّن أفق عنابة؛ إنها ركن من أركان هويتها، وسرّ من أسرار استمراريتها عبر العصور. وبحمايتها المدينةَ من الرياح واحتضانها التنوعَ البيئي ودعمها الاستقرار الزراعي والحضاري، تستحق هذه السلسلة الجبلية أن تُكتشف من جديد، ليس فقط كمعلم طبيعي، بل كجزء حيّ من ذاكرة وتاريخ الجزائر.