وادي بقرات بسرايدي في عنابة
شاطئ الأبقار ملاذ الباحثين عن سحر الطبيعة

- 134

تُعتبر مدينة سرايدي السياحية، قطعة من الأرض ذات جمال أخاذ، تطل من أعالي جبال عنابة، كأنها لوحة مرسومة بأنامل الطبيعة. ليست بعيدة عن مدينة عنابة، بل يفصلك عنها طريق جبلي متلوٍّ، تتراقص على جانبيه أشجار الصنوبر والزيتون، وتنساب تضاريسه في تناغم ساحر، كأنها تعزف مقطوعة هادئة، ترافقك نحو وجهة مميزة.
تمضي السيارة بك بين المنعطفات، يزداد الهواء نقاءً، وتفوح الطبيعة بعطرها، وبعد مسافة قصيرة تقطعها وكأنك تمشي بقلبك، لا بقدميك، تظهر أمامك تلك اللافتة البسيطة التي كُتب عليها: "شاطئ وادي بقرات". ومن هنا تماما، تبدأ الحكاية…
من مرعى الأبقار إلى جوهرة السياحة الجبلية
في الماضي، لم يكن هذا الشاطئ معروفا لدى الكثيرين، سوى أولئك الذين عاشوا معه عن قرب. كان مرعى طبيعيا هادئا، تنزل إليه الأبقار في الصباح الباكر، تشرب من مياه الوادي العذب الذي يصب في البحر، وتستلقي على الرمال لتأخذ قسطا من الراحة. مشهد تكرر على مدى سنوات، حتى أصبح جزءا من الذاكرة الجماعية لسكان سرايدي.
«ولأن الإنسان دائما مرآة الطبيعة وراوي أسرارها، منح السكان هذا الوادي اسم "وادي بقرات"، ليس فقط لتواجد الأبقار فيه، بل لأنه كان ـ ولا يزال ـ ملاذًا صامتا، تعانق فيه الحياة هدوء البحر وعذوبته، بعيدا عن ضوضاء العالم."
موقع استثنائي في قلب الطبيعة
يتميز شاطئ "وادي بقرات" بموقع فريد، يجعله مختلفًا عن باقي الشواطئ: فهو محاط من ثلاث جهات بالغابات الكثيفة، مفتوح من الجهة الرابعة على البحر المتوسط، مما يمنحه طابعًا شبه سري، وكأنه مخبأ طبيعي لا يعرفه إلا القليل.
عندما تصل إليه، تستقبلك رمال ناعمة ذهبية، ومياه شفافة تتدرج من الفيروزي إلى الأزرق الغامق، وخلفك مباشرة، جدار طبيعي من الأشجار التي تصنع ظلًا طبيعيًا، ومناخًا عليلًا حتى في أكثر أيام الصيف حرارة.
لا توجد عمارات، ولا فنادق شاهقة، فقط أنت والطبيعة، تسمع صوت الموج ممتزجًا بزقزقة الطيور، وتتغلغل رائحة الغابة في نسيم البحر. إنه مكان يفرض عليك الهدوء، ويدعوك للتأمل، وربما للكتابة، أو مجرد الصمت.
وادي بقرات حين تنبض الليالي بالحياة
وإن كان نهار وادي بقرات مخصصا للسباحة، التمشية، والتأمل في جمال الطبيعة، فإن ليله لا يقل سحرًا. مع غروب الشمس، يبدأ الشاطئ في التحول إلى فضاء ينبض بالحياة، حيث تُقام السهرات واللقاءات العائلية تحت ضوء القمر ونسيم البحر. العائلات، الشباب، الأصدقاء… الجميع يجتمعون حول النيران الصغيرة، يتبادلون الحديث، يشوون الذرة أو السمك، ويستمتعون بأجواء صيفية خالدة.
تحول المكان، في السنوات الأخيرة، إلى وجهة معروفة، تقصدها العائلات والمصطافون من مختلف الولايات. فما إن يحل المساء، حتى تعج مواقف السيارات بلوحات ترقيم مختلفة من شرق الجزائر إلى غربها، من العاصمة إلى الجنوب، في مشهد يعبر عن محبة الناس لهذا المكان، وعن سمعته التي تخطت حدود سرايدي وعنابة.
إنه مشهد يسر الناظر؛ مصابيح السيارات تمتزج مع نور القمر، وضحكات الأطفال تتعالى فوق صوت الموج، والأحاديث العائلية تنسج دفء الصيف في كل زاوية.
إن زيارة شاطئ وادي بقرات ليست مجرد رحلة استجمام، بل هي تجربة متكاملة. يمكن للزائر أن يقضي يومًا كاملاً هناك، يبدأه بسباحة صباحية في المياه النقية، تليها جلسة استرخاء تحت ظلال الأشجار، ثم نزهة قصيرة في المسالك الطبيعية القريبة، حيث تتقاطع الطرق الترابية مع مسارات المشي الجبلية.
وبالنسبة للمغامرين، يمكن صعود المرتفعات القريبة لالتقاط صور بانورامية للشاطئ من الأعلى، حيث تبدو زرقة البحر وكأنها مرآة تعكس صفاء السماء. أما في المساء، فالغروب في وادي بقرات قصة أخرى... تتلون السماء بألوان الذهب والبرتقالي، وتنعكس الأضواء على سطح البحر في مشهد رومانسي لا يُنسى.
سرايدي.. قلب السياحة الجبلية في عنابة
زيارة شاطئ وادي بقرات لا تكتمل دون اكتشاف بقية كنوز سرايدي. فالمنطقة تزخر بمواقع طبيعية خلابة، منها شاطئ رفاس زهوان، ومواقع التخييم في الغابات، بالإضافة إلى المرافق السياحية العائلية التي تقدم أطباقًا تقليدية محلية، وسط أجواء جبلية بامتياز.
سرايدي، بما تحمله من خُضرة وجمال طبيعي، تعتبر من أهم وجهات السياحة الداخلية في الجزائر، خاصة للزوار الباحثين عن الراحة النفسية، النقاء البيئي، والأجواء الباردة المنعشة، حتى في عز الصيف.
وادي بقرات ليس فقط شاطئا ساحليا، بل هو مكان يعيش في الذاكرة. هو صورة من صور الجزائر العميقة، التي تحتفظ بجمالها الطبيعي، بعيدًا عن الإسمنت والضجيج. فإذا كنت تبحث هذا الصيف عن مكان مختلف، هادئ نهارا، وحيوي ليلاً، جميل بطبيعته وأجوائه، يجمع بين سكينة البحر ودفء اللقاءات... فلا تتردد في التوجه إلى شاطئ وادي بقرات في سرايدي. ستعود منه خفيف الروح، نقي القلب، وممتلئًا بالدهشة.