ارتبط تواجده بأساطير البحر وطقوس بونة القديمة

"فنار" عنابة.. الحارس الملازم لمكانه منذ قرن ونصف القرن

"فنار" عنابة.. الحارس الملازم لمكانه منذ قرن ونصف القرن
  • 180
سميرة عوام سميرة عوام

تتعرج الطريق صعودا، وتنتشر على الجانبين أعشاب متوسطية برية وصخور بارزة، نحتها الهواء والملح عبر السنين، فيما يبدأ نسيم البحر بالهمس في الأذن. وما إن تقترب من النهاية، حتى يظهر لك فجأة "فنار" عنابة شامخا، كجندي قديم لم يغادر موقعه منذ قرن ونصف القرن.

هناك، في النقطة الساحرة، حيث تلتقي اليابسة بالماء وتبدأ الحكايات، يقف هذا المعلم النوراني، كشاهد صامت على ماضٍ بحري عريق، ومستقبل لا يزال ينتظر من يروي مجده.

معلم تاريخي عمره أكثر من قرن ونصف القرن

بُني فنار عنابة سنة 1850م، في موقع جغرافي استثنائي يُعرف بـشبه جزيرة "كاب دوقارد"، وهي منطقة بارزة في البحر، أشبه بذراع ممدودة في عرض المتوسط، تُشكل زاوية استراتيجية لرصد كل ما يتحرك في الخليج. ويرتفع الفنار، على علو يقارب 140 مترا عن سطح البحر، بينما يبلغ ارتفاع بنائه 17 مترا فقط، غير أن موقعه المرتفع يضاعف فعاليته، حيث تصل إشاراته الضوئية إلى مدى 49.89 كيلومترا في عرض البحر، مما يجعله مرشدا دقيقا للسفن التجارية والصيد، حتى في أشد الليالي ظلمة.

تنتشر من حوله، تضاريس طبيعية قاسية، لكنها آسرة، صخور متفرقة تنبثق من الأرض وكأنها تحرس المكان، وعشب بري يُلامس أطراف السلالم الإسمنتية، في مشهد يوحي بأن الطبيعة والإنسان تحالفا معا لحماية هذا الكنز المعماري.

الحارس الأمين للبحارة

لطالما مثل هذا الفنار الحارس الأمين للبحارة، كما يحب أهل المدينة تسميته. هو ليس فقط برجا يصدر نورا، بل هو رمز للأمان، ودليلٌ على اقتراب اليابسة، وطمأنينة تزرعها أضواؤه في نفوس من تحدوا عمق البحر. ولقرابة قرنين، واصل الفنار أداء مهمته دون كلل، شاهدا على التحولات الكبرى التي مرت بها مدينة عنابة، من مرفأ صغير إلى حاضرة ساحلية كبرى، من زمن القراصنة إلى زمن السفن العملاقة، حيث الهواء هناك دائم الحركة، والريح تمر بخفة حول البرج، كأنها تُسلم عليه في كل نوبة. وحتى الظلال الملقاة على الجدران البيضاء، تبدو وكأنها لوحة متبدلة تحت ضوء الشمس أو ضوء الفنار ذاته ليلاً.

قبلة للسياح.. وموقع استثنائي لغروب الشمس

الموقع الذي يحتله فنار عنابة، جعله نقطة جذب سياحي لا مثيل لها، حيث يتموضع في مقدمة بارزة داخل الخليج، ما يُتيح للزائر رؤية إطلالة بانورامية ساحرة على البحر والشواطئ الداخلية للمدينة، إضافة إلى منظر الغروب الآسر في الجهة الغربية، والذي يتحول كل مساء إلى مشهد سينمائي تتداخل فيه الألوان، وتخفت فيه الضوضاء، كأن الزمان يتوقف هناك احتراما للجمال.

ويؤكد العديد من الزوار، أن تجربة الصعود إلى قمة الموقع، والتقاط صور من محيط الفنار، من أجمل ما يمكن أن تقدمه مدينة عنابة لزائريها. فالمكان نظيف، بشكل يثير الإعجاب، والمسارات المفضية إليه مرصوفة بعناية، والنباتات البرية لا تزال تُحافظ على تناغمها مع البنية العمرانية، في انسجام نادر.

مرشد الذاكرة العنابية

لإثراء هذا المقال والعودة إلى الجذور الدقيقة لهذا المعلم التاريخي، كان لا بد من الاستعانة بمن يُحسن الغوص في تفاصيل المدينة ومعالمها. وهنا، تبرز مساهمة الأستاذ عبد الرحمان زنين، الناشط في مجال الترويج للمواقع التاريخية لعنابة، والذي زودنا بمعلومات دقيقة حول الفنار وتاريخه وموقعه الجغرافي ووظيفته الضوئية.

يؤكد زنين، أن الفنار ليس مجرد بناء حجري، بل نقطة توازن بين عنف البحر وطمأنينة اليابسة، وأنه من المعالم القليلة في الجزائر التي لا تزال تُمارس وظيفتها الأصلية، منذ أكثر من 170 عاما، دون توقف. ويضيف الأستاذ زنين، أن الفنار يمثل ذاكرة المدينة البحرية، وهو شاهد على كل السفن التي دخلت وخرجت، على العواصف التي ضربت الساحل، وعلى البحارة الذين لم يعودوا، وله قداسة خاصة في وجدان أهل عنابة.

الفنار.. وجهة العرسان والشعراء في كل الفصول

ما يُميز فنار عنابة، ليس فقط موقعه الجغرافي وإشعاعه البحري، بل قوة رمزيته العاطفية والاجتماعية. فالمكان تحول في السنوات الأخيرة، إلى محج للشعراء والرسامين والمصورين والعرسان الجدد، الذين يتوافدون عليه على مدار العام، طلبا لجرعة من الإلهام أو لحظة خالدة تُؤطر بصورة.

فمنذ الساعات الأولى من الصباح، وحتى لحظات الغروب، لا تكاد تخلو المنطقة المحيطة بالفنار من الزائرين: من سُياح يحملون كاميراتهم، وفنانين يُحضرون لوحاتهم، وفرق موسيقية تصدح بأعذب الألحان على وقع صوت الأمواج. ولعل أكثر المشاهد شاعريةً، تلك التي باتت مألوفة لدى سكان عنابة؛ موكب عرس يتوقف عند الفنار، والعروس تنزل بكامل زينتها، لتلتقط صورة مع شريكها حياتها أمام البحر، حيث يُصبح المشهد أكثر من صورة... إنه وعد أبدي يُؤخذ تحت أنظار البحر ونوره.

يُجمع الكثير من الزوار، على أن جمال الفنار لا يقتصر على فصل بعينه، بل يتجدد في الشتاء بضبابه، والربيع بنسيمه، والصيف بصفائه، والخريف بشمسه الذهبية. وفي كل فصل، يلبس الفنار ظلًا مختلفًا، وتُلقي عليه الصخور والنباتات المحيطة وشاحا بصريا لا يتكرر. 

ماذا لو جُعل من الفنار متحفا للبحر؟

رغم كل هذا الزخم الجمالي والتاريخي، لا يزال فنار عنابة بحاجة إلى التفاتة مؤسساتية جادة. فلو تم تطوير محيطه، وتنظيم زيارات دورية، ووضع لافتات تفسيرية، وتحويل المبنى الداخلي إلى متحف صغير للتراث البحري المحلي، 

لكان بإمكانه أن يتحول إلى مَعلم سياحي عالمي، يقصده الزوار، ليس فقط للاستمتاع بالمشهد، بل لاكتساب معرفة حقيقية بتاريخ الملاحة، وأسطورة الخليج العنابي.

كما يمكن أن يصبح الموقع منصة تربوية مفتوحة لتلاميذ المدارس وطلبة الجغرافيا والتاريخ، ومكانا لإحياء الذاكرة المائية للمدينة، التي لطالما ارتبطت بالبحر ومهنه.

ففنار عنابة، ليس مجرد ضوء في آخر الأفق. بل هو نبض قديم لا يزال يخفق فوق صخرة، حيث تنحني المدينة للبحر كل صباح، وهو مرآة لزمن لم يندثر، ورسالة خفية تُقرأ فقط حين يتأمل الإنسان في صمته وجماله.

يشعر وحده من يقف أمامه، بأن البحر ليس بلا حدود، بل له عين تسهر عليه، منذ 1850 وحتى إشعار آخر.