تحفة قسنطينة الصامدة التي لم تنحن للزمن

قصر أحمد باي.. حكاية آخر بايات إيالة الشرق

قصر أحمد باي.. حكاية آخر بايات إيالة الشرق
  • القراءات: 1093
شبيلة. ح شبيلة. ح

يتغير الزمن وتنحني بنايات قسنطينة العتيقة تباعا أمام تغيراته، لكن تبقى معالمها التاريخية التي تجسد حقبا مهمة وحضارات وشخصيات مرت على هذه المدينة، تحافظ على تاريخها العريق؛ بفرضها منطق ما جاء به قوي لن يزول بسهولة، وهو ما تترجمه العديد من المعالم؛ كالمساجد والبنايات والقصور التي شُيدت منذ عصور غابرة في مدينة البايات. ولعل قصر "الحاج أحمد باي" الواقع وسط المدينة، لايزال شاهدا على عراقة حضارة عثمانية لم يتمكن الزمن من طمس معالمها، ليبقى واحدا من بين أهم المعالم التاريخية التي تزخر بها مدينة الجسور.

بذلك الهدوء والسحر اللذين يخيمان على المكان الذي تروي كل قطعة زخرفية منه وكل غرفة من غرفه وسقيفته الكبيرة ونافورته في صحن الدار وأعمدته الرخامية، حكايته مع الزمن، تحوَّل قصر أحمد باي اليوم، إلى "متحف للفنون والتعابير" بعد صدور قرار تأسيسه كمتحف في أكتوبر 2010، ليفتتح أبوابه أمام من كان له فضول في معرفة أسطورة القصر وشخصياته.

الباي أحمد آخر حكام إيالة الشرق الجزائري 

قصر الباي الذي يمثل رمز الحكم العثماني، يتواجد في وسط المدينة بجانب مسجد الباي. سمي على اسم صاحبه الباي أحمد، الذي وُلد في مدينة قسنطينة حوالي عام 1784. وهو أحمد بن محمد الشريف بن أحمد القلي من أصل كرغلي. أبوه تركي، وأمه الجزائرية شريفة بنت بن قانا الملقبة بـ "أم النون". أصلها من مدينة بسكرة.

تولى منصب قائد قبائل "العواسي" التي كانت تقطن منطقة عين البيضاء وما جاورها، وهو المنصب الذي خوّله لأن يضطلع برتبة أكبر كضابط في القصر؛ حيث تولى مهمة رقابة الجزء الشرقي لإقليم قسنطينة. وكان له حق الإشراف على قوة عسكرية قوامها 300 فارس بمساعدة أربعة مساعدين عيّنهم الباي، وهم الشاوش، والخوجة، والمكحالجي والسراج. وبعد تخلّيه عن هذا المنصب لمدة من الزمن، استدعاه نعمان باي، وعيّنه، مرة أخرى، قائدا للعواسي لخبرته في الميدان.

ترقّى الحاج أحمد إلى منصب خليفة في عهد الباي أحمد المملوك. واستطاع المحافظة على هذا المنصب إلى أن نشب خلاف بينه وبين الباي إبراهيم حاكم بايلك الشرق الجزائري ما بين 1820 و1821، مما أدى إلى عزل الحاج أحمد، فغادر قسنطينة نحو الجزائر؛ خوفا من المكائد والاغتيال، خاصة أن إبراهيم هو الذي حاك له المكيدة، واتهمه بالتواطؤ ضد الجزائر مع باي تونس، إلا أن الداي حسين كشف الحقيقة، وأمر بقتل إبراهيم باي عام 1821، بينما بقي الحاج أحمد في العاصمة، ثم أُبعد إلى مليانة، ومنها انتقل إلى البليدة. وقد عاش هناك وقائع الزلزال الذي هدّم المدينة عام 1825. ولعب، حينها، دورا هاما في عملية الإنقاذ إلى درجة أن أُعجب قائد الجيش يحيى آغا يحيى بخصاله الحميدة، ونقل هذا الإعجاب إلى الداي حسين، الذي عيّنه بايا على بايلك الشرق في عام 1826.

تحفة صامدة وقصر يخلّد تفاصيله

في موقع استراتيجي وسط مدينة قسنطينة، أعطى الباي أمرا ببناء القصر الذي بات مقر الحكم ببايلك الشرق إبان الحكم العثماني للجزائر، فتم بناؤه على مساحة قُدرت بـ 5609 متر مربع، بعد تهديم 28 منزلا كانت بعين المكان، اشتراها من أهاليها، وكان وقتها قايد العواسي. ولم تنته أشغاله إلا سنة 1835.

استدعى أحمد باي من جنوة المهندس "شيافينو"، واثنين من الفنانين المعروفين بالجزائر، وهما "الجعبري، وآل الخطابي" للتصميم المعماري لقصره؛ كونهما اشتهرا بتصاميمهما المميزة، من خلال ما أنشآه من قصور عربية أبهرت الباي خلال رحلاته. وقد تم بناء القصر على مرحليتين؛ الأولى عندما كان أحمد باي قايد العواسي، والثانية عندما أصبح بايا، وأكمل بناء هذه التحفة المعمارية. ويضم القصر الذي دام بناؤه عشر سنوات وشغله الباي أقل من سنتين فقط بسبب سقوط قسنطينة بيد الفرنسيين عام 1837، 121 غرفة، و500 باب ونافذة صُنعت من خشب الأرز المنقوش باحترافية عالية، وزُينت بألوان "حمراء، وخضراء وصفراء"، فضلا عن حوالي 22 رواقا لتهوية القصر، و250 عمود من الرخام، جيء بها من مناطق متوسطية مختلفة، يؤكد المختصون أنها من إيطاليا، ومنها من تمت صناعة في سكيكدة.

كما تبلغ مساحة الطابق الأرضي ألف متر مربع، في حين تصل مساحة الإسطبل إلى 517 متر مربع. ويوجد بالقصر فناء رئيسي، وهو محاط بخمسة أقواس، وكان يسمى دار "أم النون" نسبة إلى السيدة شريفة بنت بن قانا، والدة أحمد باي.

أما الطابق العلوي ففيه سلّم يؤدي إلى فناء محاط، أيضا، بأروقة ذات أقواس. ويحتضن الفناء سلسلة من الشقق تحتوي على أثاث قديم، ثم فناء آخر مبلط بالرخام، ومزيّن بأعمدة. ويغطي "الزليج" الذي يتشكل في شكل لوحة جبس أو رخام بها زخارف هندسية، أغلب الجهة السفلية للجدران داخل القصر. وقد تم استقدامه، حسب المختصين، من إيطاليا، وإسبانيا، وهولندا وتونس.

أما أسفل القصر فكان يضم خزان مياه تعيش به أسماك صغيرة حمراء، وإسطبلا، أهم ما فيه عدا الجياد، أسدان يملكهما الباي، فضلا عن ثلاثة أجنحة رئيسية؛ الجناح العائلي الذي يضم غرفة الأم وزوجاته الأربع، وغرفة ابنته فاطمة، التي تُعد أجمل غرفة في القصر، والتي اتخذها نابوليون الثالث غرفة له، ثم صارت بعده، للماريشال كلوزيل.

إبداع مهندسي القصر ودقة في بناء الغرف والأجنحة

تقول الروايات إن فكرة بناء قصر الباي تعود إلى تأثر أحمد باي أثناء زيارته البقاع المقدسة، بفن العمارة الإسلامية؛ حيث أراد أن يترجم افتتانه بهذا الفن، ببناء قصر له في قسنطينة، فقام المهندسون بإبداع، جُسد في هذا الأخير، الذي يحتوي على 4 مناطق مفتوحة، تتمثل في حديقة البرتقال، وحديقة النخيل، والحوض، ووسط الدار. وكل فضاء يضم نافورة ماء بغية تغيير الهواء وتبريد القصر، وهو القسم الذي يسكنه الباي صيفا. كما يحتوي على جناح ثان مخصص للجواري وخادمات القصر، وجناح ثالث كان الباي يسكنه برفقة عائلته في فصل الشتاء فقط؛ لكون الشمس تشرق عليه، ولا تغادره طيلة النهار، إلى جانب وجود حمّام أسفله، يساهم في تدفئة المكان، وهو الجناح الذي يتحول في فصل الصيف، إلى مكان يستقبل فيه الباي المقربين منه، وبعض ضيوفه.

القهواجي أهم شخصيات القصر

ولعل ما يجذب انتباه كل من يزور القصر ويجعله يقف مطولا به، أبوابه؛ حيث يقف الزائر بها مطولا من أجل التمعن في التفاصيل التي تحملها، فقد صُنعت من خشب مميز، يحمل نقوشا إسلامية تؤرخ لحقبة مهمة من التاريخ. وزُينت بقطع من الحديد ترمز إلى قوة صاحب القصر، مع تلك المطارق. أما عن أقدم بوابة في القصر، فتؤكد الشروحات المقدمة من دليل القصر، أنها مصنوعة من شجر الجوز، وعمرها 400 سنة. وقد جُلبت من دار الإمارة بمنطقة الأربعين شريفا، قبل البت في بناء القصر. ويظهر جليا نقش لبيت من الشعر على هذا الباب، كُتب بخط الثلث، جاء فيه: "بسم الله الرحمان الرحيم، لمالك السعادة والسلام وطول العمر ما سجحت حمامة، وعز لا يخالطه هوان وأفراح إلى يوم القيامة".

وهي البوابة التي أهداها الباي لـ "القهواجي" أو كما كان يسمى "المرزوق"، ليكون بابا لغرفته القريبة من الديوان؛ إذ يُروى أن "القهواجي" شخصية مقربة من الباي. وقد أحضره من مدينة بسكرة مسقط رأس والدته والمكان الذي ترعرع فيه. كما إن الباي كان لا يتناول أي شيء قبل أن يتذوقه "القهواجي" ويصادق عليه؛ حيث لم يكن يتناول الطعام إلا من يد والدته "أم النون"، التي كانت تقوم بتحضيره بمفردها في مطبخ منعزل، ثم تنقله جاريته المفضلة فطوم، إلى "القهواجي"، ليقوم بتذوقه أولا.

الديوان والجناح الإداري.. مكانان مقدسان ومحروسان بالأسود

يتوسط القصر ديوان الباي الذي يضم 14 نافذة، يمكن أن يراقب عبرها سيد القصر، كل ما يجري في قصره؛ كنوع من أنظمة المراقبة آنذاك.

وزيادة في تشديد الأمن، فقد كان الباي، حسب شروحات المرشد، يعمد إلى تشغيل النوافير في الحدائق المحيطة بالديوان، والتي يقف بها الحراس؛ فلا يتمكنون من سماع ما يدور من حوار بين الباي ومن يجلس بجانبه.

ولردع كل من تسول له نفسه ارتكاب أي أمر ضد الحكم أو ضد القصر وأهله، كان الباي يأمر بإخراج الأسدين بشكل يومي إلى الحديقة الأولى عند مدخل القصر؛ كنوع من الترهيب، وزيادة في الأمان.

أما الجناح الإداري الذي يُعد أهم ما في القصر لاحتوائه على محكمتين موازيتين لحديقة النخيل؛ الأولى مدنية، ويشرف فيها قاضيان على القضاء من السبت إلى الخميس، أحدهما يحكم بالمذهب المالكي للجزائريين، والآخر بالمذهب الحنفي للأتراك. أما المسائل الكبرى فيحكم فيها الباي يوم الجمعة في ديوانه. والأخرى محكمة عسكرية توجد في الطابق العلوي، وهي محكمة الجيش الانكشاري، التي حُولت إلى قاعة محاضرات حاليا.

"أم النون" سيدة القصر الأولى

ومن أهم نساء القصر والدة الباي، السيدة شريفة بنت بن قانا الملقبة بـ "أم النون"، التي كانت تشرف بنفسها على شؤون القصر وترتيب أمور المطبخ؛ لعدم ثقتها في الطباخين والخدم. وكانت تختار بنفسها الزنجيات اللاتي يُعرفن محليا بـ«الوصيفات"، اللواتي كن يعملن في التنظيف، وتسكنهن في أكواخ قرب القصر.

لالا فاطمة مفضلة أبيها في قصر يعجّ بالجواري

يتميز القصر باتساعه ودقة توزيع أجنحته المتساوية في الشكل والمضمون.

تقول بعض المخطوطات إن أحمد باي أصر على أن تكون غرف القصر متشابهة، وربما ما يميز الطابق الثاني غرفة فاطمة ابنة أحمد باي، فبعد لالا شريفة، تُعد ابنته "لالا فطوم" أقرب امرأة إلى قلبه، فكان لديها جناح خاص يطل على كل زوايا القصر ومداخله؛ بحيث يمكنها مشاهدة ما يحدث في مختلف حدائق القصر وأروقته بدون أن يلاحظها أحد. أما غرفتها فتبدو مختلفة عن باقي الغرف؛ إذ إنها أجمل غرفة بالقصر، إضافة إلى غرف كبيرة وواسعة، بجوارها حمام ذو هندسة مغاربية، كان مخصصا للباي ونسائه.

"الحرملك" به جوارٍ من عدة جنسيات

جاء في عدد من وثائق المستشرقين، أن قصر الحاج أحمد باي كان يعج بالجواري. واعتبره البعض أكبر "حرملك" في التاريخ؛ إذ كان يحتضن أزيد من 300 جارية من كل الأعمار والأجناس؛ من القوقازية إلى الشركسية إلى الزنجية، والبلقانية، والهندية، والإسبانية والإيطالية. وكانت "العلجيات"؛ أي المسيحيات الأوروبيات من بين المفضلات لدى الباي أحمد، ومنه جاء اسم "علجية" المتداول بكثرة في منطقة الشرق الجزائري. وكن يُقمن في عشرات غرف القصر الفسيحة؛ لضمان راحتهن، وتجنب اختلاطهن. كانت الجواري يقطنّ في غرف منفصلة، وينعمن بكل وسائل الراحة.

"القايد مرجان" حارس حريم الباي

وتشير الكتب التاريخية إلى بعض الشخصيات البارزة في سرايا الباي، على غرار "القايد مرجان" الذي كان يحمل لقب "قايد الدريبة"؛ أي حارس حريم الباي، حيث كانت مهمته السهر على راحة الجواري، وتوفير وسائل الرفاهية لهن. وكان يشرف مرتين في الشهر على الكشف الصحي للجواري بحضور الباي شخصيا. كما كانت من بين مهامه توزيع الألبسة والحلي والبخور والعطور والحناء، وغيرها من المستلزمات التي كانت المحظيات والجواري يتسابقن للحصول عليها لإغراء الباي.

"محظية الباي" الإيطالية التي حقدت عليه بسبب شقيقها

ظلت حياة حريم الحاج أحمد باي، آخر بايات قسنطينة، محاطة بالسرية لعقود من الزمن، فلم يستطع المؤرخون الوصول إلى ما كانت تخفيه أسوار القصر، وبقيت جزءا مفقودا من محطاته التاريخية عدا ما جاء في رواية الكاتب الفرنسي شارل فيرو، التي نقلها على لسان إحدى الجواري المحظيات، فيما ظل الجزء المتبقي من أسرار الحريم،  مجهولا. قُدمت حوله العديد من الحكايات والروايات، غير أن أغلبها والخاصة بالروايات الفرنسية، كان يحاول تشويه صورة الباي.

ومن بين الأساطير التي رُوجت عن قصر الباي، قصة أحب نسائه، والتي كانت بالجناح الخاص بنسائه الأربع، اللائي خصص لهن جناحا يطل على حديقة أشجار البرتقال، وكانت الجارية الإيطالية عائشة، التي اشتراها الباي من سوق العبيد بالعاصمة بعد أن بيعت في سوق الإسكندرية. كانت تعيش بالغرفة التي تطل على حديقتي القصر، وهي قريبة من مدخله الرئيس. ولا تبعد سوى بمترين عن مجلس الحاج أحمد باي الدائم الذي يتوسط القصر ويطل على كل زواياه، فكان الحاج يراقب من هناك تحركات نسائه، وكل ما يجري حوله. كان يحبها، ويعاملها كأنها ملكة القصر. وكلفها بالإشراف على الحريم، لكن كان لعائشة شقيق اسمه "أغوستينو"، قضى وقتا طويلا في البحث عنها، إلى أن عرف مكانها، وعندما أراد رؤيتها رفض الباي وقام بإعدامه، فعلمت عائشة بقتل أخيها، فحقدت كثيرا على الباي عندما بلغها الأمر.