شيّد في 12 أوت 1792

مسجد "صالح باي".. حارس ذاكرة عنابة

مسجد "صالح باي".. حارس ذاكرة عنابة
  • 102
سميرة عوام سميرة عوام

تحيي مدينة عنابة، ذكرى مرور 233 عام على ميلاد أحد أعز معالمها التاريخية والدينية، مسجد "صالح باي"، الذي شُيد في 12 أوت 1792 وسط أزقة المدينة القديمة، في قلب الحقبة العثمانية، ليكون ثاني أقدم مسجد بعد الجامع الكبير، وواحدًا من أكثر الشواهد العمرانية صمودا ورمزية في تاريخ المدينة.

يرتفع هذا المسجد، منذ قرنين وثلاثة عقود، كأمين على ذاكرة عنابة، ويقف على تلة الزمن، شاهدا على تقلباته، محتفظًا بروح المكان ومهابة الإيمان، حيث تتجسد في بنائه ملامح العمارة العثمانية، التي جمعت بين التناسق والبساطة، وبين الزخارف الهادئة والملامح المهيبة. وتلوح مئذنته النحيلة، التي ترتفع برفق فوق أسطح البيوت العتيقة للبحر، وتستقبل المصلين منذ مئات السنين، فيما يظل بابُه الخشبي العتيق معبرا نحو عالم من السكينة والوقار.

عند أعتاب مسجد "صالح باي"، عبرت أجيال وأجيال، أطفال حملوا ألواحهم الخشبية لحفظ القرآن في كتابه، وشيوخ اعتادوا أداء صلاة الفجر بين جدرانه الباردة، ونساء جئن بخشوع في أيام العيد أو ليالي التهجد. هناك، تعاقبت الحكايات، ومجاهد لجأ إلى محرابه في أيام المحنة، وفقيه ألقى فيه درسًا عن الصبر، وأذانٌ ارتفع في أزمنة السلم والحرب معًا، ودموع فاضت في لحظات الخشوع.

لم يكن المسجد مكانًا للصلاة فقط، بل كان مدرسة، ومنتدى، ومجلسًا للتشاور، ومرفأً للأمان الروحي. كان يربط بين القلوب قبل أن يربط بين الأزقة، ويعلم الناس أن الدين في جوهره بناء للروح، كما هو بناء للمجتمع. وفي كل زاوية من زواياه، هناك أثر ليد بناءٍ عثماني أجاد في صنعته، أو ظل لظل مصلٍّ مر من هنا منذ مئات السنين.

مرور 233 عاما على تشييده، ليس مجرد رقم يُسجَّل في تقويم الذكريات، بل هو علامة على صمود هوية المدينة أمام رياح النسيان. إنه درس في الوفاء للمعالم التي صنعت ذاكرة الجماعة، ورسالة بأن المدن التي تهدم تراثها، إنما تهدم جزءًا من روحها. وعنابة، وهي تحتفي اليوم بمسجد "صالح باي"، تحتفي في الحقيقة بذاتها، وبتاريخها، وبإرادة البقاء التي جعلت هذا الصرح يقف ثابتًا وسط العصور المتقلبة.

واليوم، حين يسير الزائر في أزقة المدينة القديمة، ويلمح مئذنة المسجد تتسرب من بين أسطح البيوت، كنسمة من زمن بعيد، يدرك أن هذا المكان ليس أثرًا جامدًا، بل كائن حيٌّ يتنفس من خلال المصلين والزائرين، ويواصل إرسال نداءاته عبر الأذان، ليقول للأجيال: إن الماضي لا يموت ما دمنا نحمله في قلوبنا، وإن الإرث الحقيقي هو الذي يظل يمدنا بالقوة كلما احتجنا إليها".

ويبقى مسجد "صالح باي"، كما كان منذ يومه الأول، حارسا صامتا لمدينة أحبت البحر، واحتضنت الإيمان، وحفظت الوعد بأن ذاكرة الأمس، ستظل منارة للحاضر والمستقبل.