حضرت فيها رمزية الأرض وبصمة يد الإنسان
ينّاير بقرية ثيزة.. احتفالية تعكس اللحمة الوطنية
- 2435
عرفت احتفالية بداية السنة الأمازيغية 2967 بولاية بومرداس الخميس المنصرم، تنظيم فعاليات ثقافية جميلة وفق كوريغرافيا متناسقة مزجت بين العروض الفولكلورية والحرف اليدوية المرتبطة بالأرض، تعكس نجاح مديرية الثقافة في تنظيم الحدث بالتنسيق مع جمعية ثافات لقرية ثيزة. وقد كان لحضور السلطات المحلية وعلى رأسها الوالي فواتيح ميزة أخرى تزيد من الاهتمام بهذا العيد الذي يحدد الهوية والوحدة الوطنيتين.
احتضنت قرية تيزة ببلدية عمال في ولاية بومرداس الخميس المنصرم احتفالا بعيد ينّاير جمعت فيه ما له علاقة بهذا العيد من عنصر الأرض والإنسان، فبالإضافة إلى معرض للحرف التقليدية على اختلافها، كان لشجرة الزيتون حضورها المميز من خلال مختلف مشتقاتها من زيتون وزيته وحتى بقايا ثمرتها وأوراقها المستعملة في الحياة اليومية، كذلك حضرت الطبوع الثقافية من فرق موسيقية واستعراضات فولكلورية، دون أن ننسى اللباس التقليدي والحلي الفضية وخيرات الأرض الكثيرة التي يصعب ذكرها بأكملها، لنقول باختصار: «حضر ينّاير بحضور الأرض الطيبة وخيراتها فكانت قرية ثيزة مثلما يعنيه اسمها مفترق طرق حقيقي بين عادات وتقاليد مختلفة يزيدها جمالا المحافظة عليها وإظهارها للأجيال، ولا يوجد أحسن من باب السنة الأمازيغية مناسبة حضرت فيها كل أطياف المجتمع لإظهارها».
حرف مرتبطة بالأرض
مناسبة يناير، حسبما تتقاطع في تعريفه الحكايا، ترتبط بالأرض وما تأتي به من خيرات جعلت الإنسان يمسك باكتفائه الذاتي بين يديه. فسواء كان قمح أو شعير أو ذرة، وكذا زيتون وخروب وبلوط.. إضافة إلى الجوز واللوز والفستق والبندق، والقائمة تطول بطول ما تجود به الأرض عن طريق الفلاحة وما يتقاطع معها من حرف ومهن طوّع من خلالها الإنسان صعوبة الحياة اليومية، فمعرض ثيزة التقليدي ضم إليه 23 حرفيا يمثلون مختلف الصناعات التقليدية تحت شعار «ينّاير وخيرات الأرض»، منهم الحرفي في صناعة أدوات المطبخ التقليدية «علي أمالو» من قرية ثيزة، الذي قال «إن الفراغ جعله يبدع أدوات من رحم الطبيعة».
وأضاف يقول «من يبحث في الطبيعة سيجد لا محالة شيئا تقدمه له، أنا سئمت الفراغ بعدما كانت حياتي مليئة بالنشاط لما كنت عاملا، وبعد التقاعد وجدت نفسي رهينة أوقات فراغ طويلة فوجدت في تطويع جذوع الأشجار وأغصانها تحفا فنية للمطبخ»، موضحا سهولة الحصول على المادة الأولية بغابات عمال وبني عمران خاصة من أشجار الزيتون والخروب والسيسنو والدفلى والصنوبر، ولم ينس أن يؤكد أنه لا يعتدي على الطبيعة وإنما تكفيه بقايا الأغصان والجذوع التي يلتقطها من الأرض بعدما تطرحها الأشجار عبر تجديد دورة حياتها. الحرفي لم ينس أيضا ذكر ما يصنعه من أشياء تتعلق بالمطبخ وكذا قطع ديكورية مختلفة الأحجام والأصناف، داعيا كل من يعاني من الفراغ للبحث من حوله بما قد يشغل وقته ويحقق له دخلا ماديا.
عيد «ثمر كنطي» دليله الدقيق وزيت الزيتون
ينّاير في مدلوله يعني شكر الأرض لأفضالها على الإنسان، ولعل أهم فضل يظهر في ثمرة الزيتون المباركة وزيتها «العجيب» مثلما يصفه مواطن من قرية ثيزة والذي اعتبر أن «وجود الدقيق وزيت الزيتون و الكرموس (التين المجفف) في البيت يعني أنني من الأغنياء، فالغنى لا يعني أبدا أن نكسب أكياسا من النقود وإنما أن نكسب قوت يومنا، وبالنسبة لي، فإن وجود زيت الزيتون وكيس دقيق يجعلني لا أخاف على غذاء أسرتي»، فيما يضيف مواطن آخر، أن أحد عوامل الاحتفال بيناير لكونه عيد «ثمركنطي» أي أنه عيد مربوح بفضل الغلة الوفيرة للأرض.
ومظاهر العيد المربوح، قد أظهرها حرفيون آخرون شاركوا في احتفالات قرية ثيزة، ومنهم السيدة غنية سعيد شاوش، إحدى ربات البيوت التي تعمل ضمن الأسر المنتجة لإعالة نفسها وأسرتها. تقول «إنها أرملة وأم لثلاثة أطفال وجدت في صناعة العجائن بأنواعها طريقة للخروج من الحاجة، لتصبح اليوم ذات صيت واسع ببلدية تيجلابين وما جاورها في صناعة الكسكسي والبركوكس والمحمصة، وكذا المحاجب والمطلوع وغيرها من العجائن المحبوبة والمطلوبة، وهي نفس العجائن التي يتم تحضيرها بمناسبة رأس السنة الأمازيغية، حسب عادات كل منطقة. الحرفية التي شاركت في معرض ثيزة تبعث برسالة إلى كل امرأة ماكثة بالبيت بضرورة تعلم حرفة يدوية، تتقنها وتتفنن فيها وتكون بمثابة مصدر رزق لها يغنيها حاجة السؤال.
عسل طبيعي..خل وخروب
جاء ذكر الزيتون كشجرة مباركة في القرآن الكريم لعظم فوائدها، وإلى جانبها جاء ذكر العسل الطبيعي الذي لا نكاد نحصر فوائده الكبيرة في سطر أو اثنين، وإنما نشير إلى مشاركة حرفيين في إنتاج العسل الحر مثلما نفضل جميعا تسميته، وإلى جانبه منتجات الخلية من شهد وحبوب الطلع ومنتجات التجميل الكثيرة التي أبدعت يد الإنسان في استخلاصها مما تطرحه النحلة من بطونها، إلى جانب ذلك كان ذكر الرسول عليه الصلاة والسلام لفوائد الخل في حديثه الشريف «نعم الإدام الخل، اللهم بارك في الخل، فإنه كان إدام الأنبياء قبلي ولم يفتقر بيت فيه خل». وانطلاقا من هذا الحديث، فإن منور ساجي وجد في استخلاص الخل من أنواع التفاح حرفة له بعد التقاعد.
قال منور، إن عمله كفيزيائي لسنوات متتالية كان له بالغ الأثر على تعلقه بحرفة استخلاص الخل من التفاح، وبالنظر إلى حبه للطبيعة وتفضيل العلاج بها على المواد الكيمائية، جعله يفضل ملء وقت فراغه بإنتاج أنواع الخل من التفاح المتوفر بالسوق الوطنية، ومنه «لاروايال» و»ديليسيوز» وغيرها، مشيرا إلى خلط بعض أنواع الأعشاب بالخل، مثل المريمية والزنجبيل والزعيترة وإكليل الجبل «وكلها أعشاب طبية أعمل على إضافة القليل منها إلى مستخلص التفاح المُخمر أي الخل حتى يمكن استعمالها في العلاج الطبيعي»، يقول منور ساجي، ملفتا إلى أن الخل مفيد في تخفيض نسبة الكولسترول في الدم، وفي إنقاص الوزن.
من جهته، شارك الحرفي في صناعة منتجات الدرج مثل التوابل وأنواع الخضر المجففة، والتين و»الروينة» المعروفة بمزاياها الكثيرة. وحسب مصطفى لعراسي، فإن ينّاير رمز للهوية الوطنية، وقال «إن رمزية هذا العيد مرتبطة بالأرض «لذلك فإننا من بين الذين استثمروا في الأرض وخيراتها الكثيرة»، ملفتا إلى استغلال أشجار الزيتون للعائلة بمنطقة عمّال من أجل استخلاص زيت الزيتون وتسويقها، وإلى جانبها أشجار الخروب التي يعتبرها ثمرة عجيبة تؤكل على طبيعتها بعد تجفيفها، أو بعد طحنها واستخلاص الروينة التي تباع بالغرام للمستهلك، وهذا بعد إضافة القليل من طحين الحمص والشعير والذرة والعسل الحر وزيت الزيتون.
و روينة الخروب ـ حسب مصطفى ـ تستعمل كمقوي غذائي لجميع الأعمار دون فرق، كما أنها طاردة لسموم الجسم ومفيدة للجهاز الهضمي وللمناعة، ومقوي غذائي للمرأة المرضعة وحتى للأطفال. مشيرا إلى «أنه يستغل أشجار الخروب لعائلته منذ ثلاث سنوات ويسوقه جافا أو مصنعا كروينة بكل من بومرداس والعاصمة وقسنطينة والبليدة، وهو يعمل على ترقية مؤسسته وتغطية الطلب الوطني على هذه المنتجات. هو الآخر، يعتبر باب العام الأمازيغي فرصة متجددة لتذكير الإنسان بفضل الأرض عليه، ويلقاها مناسبة لرفع نداء لكل الشباب العاطل للاستثمار في الأرض وتحقيق الاكتفاء الذاتي بما فيه المادي.
سمّان، حجل .. دجاج عربي وشاي ساخن
المعروف عن «أمنسي نْينّاير» أو عشاء باب العام أن يكون كسكسي بالحبوب الجافة ولحم ديك أو دجاجة عربية، مثلما يطلق عليها، أي دجاج خم المنازل، هذا هو المتعارف عليه «حتى نبقى في التقليد وفقط»، يقول الشاب يوسف عمي، مربي دجاج وحجل وسمّان، مشارك في معرض يناير بقرية ثيزة، «إنه يعمل كصياد لدى أحد الخواص بالعاصمة، ولكنه متعلق بكل ما يرتبط بالأرض ومنه تربية الدجاج التقليدي الذي يشير إلى أنه أربعة أنواع: فمنه الدجاج الأحمر والأبيض والأسود والرمادي.
وإلى جانب الدجاج، يربي يوسف الحجل أو دجاج غينيا مثلما كان يسمى من قبل، وقال إنه من أفضل أنواع لحم الطيور وبعده لحم السمّان ومن ثم لحم الدجاج التقليدي. الشاب اعتبر أن مهنة الصياد متعبة للغاية وهو يعمل على الاستقرار في مهنة تربية الدواجن والطيور. ومن أجل ذلك، فإنه يبحث في كل العوامل التي تجعله ينجح في مشروعه، ولكنه يأمل من السلطات المحلية مساعدته في العقار من أجل الاستثمار والتوسع وبالتالي خلق مناصب شغل، معلقا أن أحواله الحالية لا تسمح له بذلك في الوقت الراهن.
يوسف قال «إن ينّاير ذو فضل على الأفراد لأنه مناسبة تجمع القريب والبعيد، وتسمح باجتماع الأهل والجيران والأقارب، ربما من أجل ذلك فضل رفقة صديقه عرض خدمة الشاي الساخن الخميس المنصرم بمناسبة احتفالات يناير بقرية ثيزة، هذه القرية الواقعة بأعالي جبال بلدية عمّال المتميزة بالبرودة.
أهازيج.. فولكلور .. هدايا وتكريمات
من بين مظاهر الاحتفالات بعيد رأس السنة الأمازيغية، تنظيم معرضا آخر للوحات الفنية المعبرة عن الحياة التقليدية، أبدعت في رسمها يد الإنسان الذي استطاع على مدار القرون تطويع الطبيعة من أجل نفسه، وإلى جانبها كانت رقصات فولكلورية عبر كوريغرافيا جميلة من إبداع بنين وبنات المنطقة، دون إغفال العروض القتالية لرياضة «اليوسيكان بيدو» من إمضاء هواة هذه الرياضة القتالية، مع ذكر توزيع جوائز على 19 تلميذا من الطورين الابتدائي والمتوسط من مدارس الولاية المتفوقين في مادة الأمازيغية، إلى جانب تكريم ثلاثة معلمين، ومعهم بعض من وجوه الأسرة الإعلامية ممن تم تكريمهم ومنهم «المساء» نظير عملهم، إلى جانب المجتمع المدني في أهدافه الرامية إلى خدمة الفرد والمجتمع. نشير إلى أن هذه التكريمات أشرفت عليها الفدرالية الوطنية للحرفيين التي يرأسها بولاية بومرداس السيد محمد شارف، المنظمة لمعرض الصناعة التقليدية بقرية ثيزة.
المسؤول أشار إلى أن تنظيم معرض ينّاير بالقرية يعود إلى سنة 2004، كما بدأ الاحتفال يعرف صداه الواسع سنة تلوى أخرى خاصة مع تلقي المساعدات من طرف السلطات المحلية، ملفتا إلى انطلاق عملية غرس 2967 شجيرة زيتون موازاة مع إحياء السنة الأمازيغية 2967، العملية انطلقت الخميس المنصرم رمزيا وتستمر إلى غاية الانتهاء من غرس الشجيرات بكل من غابات الثنية وتيجلابين وبني عمران وسوق الأحد وعمال وغيرها، تكثيفا لمساحات الزيتون بالولاية، بالتنسيق مع المصالح الفلاحية ومحافظة الغابات.
الإعلام حاضر بقوة والسلطات في الموعد
عرفت احتفالية يناير بقرية ثيزة، حضورا ملفتا للإعلام بمختلف قنواته، وهو ما يعكس البُعد الوطني لهذا الاحتفال، ومنه كانت مشاركة جمعية الإعلاميين المتخصصين في السياحة «أقلام سياحية»، التي ترأسها السيدة ذهبية حماني، التي أشارت إلى مشاركة سابقة لجمعيتها بهذه الاحتفالية خلال السنة الفارطة واليوم ـ تقول ـ نشارك «مرة أخرى للعمل مجددا على ترقية السياحة الجبلية بعمال عن طريق اقتراحها كوجهة سياحية على وكالات السياحة والأسفار»، مبرزة المشاركة السنوية لجمعيتها في احتفالات ثيزة بيناير ضاربة الموعد السنة المقبلة مع جلب مزيد من الاهتمامات الإعلامية والسياحية للمنطقة.
نشير إلى أن الاحتفالات كانت مناسبة للوالي عبد الرحمان مدني فواتيح ليبدي إعجابه بنظافة قرية ثيزة، وهو ما جعله يعلن عن تنظيم جائزة أنظف وأجمل حي بولاية بومرداس، مثلما أعلن كذلك أن عيد يناير هو ملك لكل الجزائريين وأن عمله بولايات البويرة وبجاية وتيزي وزو وحاليا ببومرداس يجعله مدركا «لقيمة هذه الاحتفالات ومعجبا بعيد يتبناه الجميع، والتزم بتثمين كل ما يجمع اللحمة الوطنية ويقدم يد المساعدة للحركة الجمعوية العاملة في مجال الروح الوطنية» خاتما حديثه بالقول إنه يفضل تنظيم احتفالية يناير كل سنة بمنطقة معينة من بومرداس على قدم المساواة لأنه عيد الجميع ويمثل الجميع».