أيام زيادة العبادات ومضاعفة الأعمال الصالحات
- 2444
أيام معدودات بقيت من شهر رمضان المبارك فيها الكثير من الخيرات والفضائل والخصائص، فهي أفضل أيام شهر رمضان المبارك ولياليها أفضل ليالي العام كلّه، وهي أيام وليال ذات فضل جديرة بالاهتمام فقد كان رسول الله صلوات الله وسلامه عليه يخصُّها بمزيد من العبادة، ويُضاعف فيها الأعمال الصالحة، ويجتهد فيها بأنواع من القرب والطاعة بجميع أنواع العبادة من صلاة وقراءة لكتاب الله عز وجل وذكر وصدقة... وغيرها ما لا يجتهد فيما سواها من الأزمنة، وكان يحيي هذه الليالي المباركة بالقيام والتلاوة والذكر بقلبه ولسانه وجوارحه طلباً لليلة القدر التي من قامها إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدم من ذنبه فيها، وكان صلى الله عليه وسلم يوقظ أهله فيها للصلاة والذَّكر حِرصاً على اغتنام الخير في هذه الليالي المباركة.ففي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيره. وفي الصحيحين أيضا عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان رسول الله إذا دخل العشر الأواخر من رمضان أحيا الليل، وأيقظ أهله، وجدّ وشدّ المئزر". وقالت أيضا: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يخلط العشرين بصلاة ونوم، فإذا كان العشر شمر وشدّ المئزر".
وفي أيام وليالي العشر الأواخر من شهر رمضان المبارك كان يعتكف النبي صلى الله عليه وسلم، والاعتكاف هو لزوم المسجد للتفرغ لطاعة الله عز وجل، وهو من السنن الثابتة بكتاب الله وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم، فقد اعتكف النبي صلى الله عليه وسلم واعتكف أصحابه رضوان الله تعالى عليهم، فقد روى أبو سعيد الخدريّ رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتكف العشر الأول من رمضان ثم اعتكف العشر الأوسط، ثم قال: "إني أعتكف العشر الأول ألتمس هذه الليلة، ثم اعتكف العشر الأوسط ثم أُتيت فقيل لي إنها في العشر الأواخر، فمن أحبّ منكم أن يعتكف فليعتكف".
وجاء في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت : "كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله عز وجل ثم اعتكف أزواجه من بعده". وفي صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف في كل رمضان عشرة أيام، فلما كان العام الذي قُبض فيه اعتكف عشرين يوماً". وعن أنس رضي الله عته قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان، فلا يعتكف عاماً، فلمّا كان العام المقبل اعتكف عشرين".
ومن خصائص ليالي العشر الأواخر من شهر رمضان وفضلها شرفاً وفضلاً أن الله اختصّها بليلة القدر التي عظَّم سبحانه قدرها وأعلى شأنها، وشرّفها بإنزال الوحي المبين على سيّد المرسلين صلوات الله وسلامه عليه، وفيها يُفرق كل أمر حكيم، والعبادة فيها تفضُل عبادة ألف شهر خلت من ليلة القدر، فهي ليلة عظيمة البركات، كثيرة الخيرات، لِما يتنزل فيها على العباد من عظيم المِنَح الربَّانية، وجليل النفحات الإلهية، وهي ليلة من أعظم ليالي الدهر، ليلة مباركة العمل فيها يُضاعف أكثر من العمل في ألف شهر، ليلة تَضِيق فيها الأرض من كثرة الملائكة، وهي ليلة الشّرف التي من تحرَّاها صارت له المنزلة عند الله تعالى، وهي ليلة يُباهي الله تعالى فيها الملائكة بعباده الصالحين، وفيها يقدر الله تعالى لملائكته جميع ما ينبغي أن يجري على أيديهم من تدبير بني آدم ومحياهم ومماتهم إلى ليلة القدر من السّنة القابلة، وهي ليلة سالمة لا يستطيع الشيطان أن يعمل فيها سوءاً ولا يُحدث فيها أذى، وهي سبب للسلامة والنّجاة من المهالك يوم القيامة.
ومن صِدق إيمان العبد، ودلائل توفيق الله له أن يغتنم هذه الليالي المباركة، بجلائل الأعمال الصالحة، وأنواع العبادة والطاعة، والتّذلل بين يديّ الله عز وجل، والإنابة إليه، أَمَلاً في إحراز فضل ليلة القدر ونيل بركاتها، فلقد بلغ من عظيم فضلها وجليل ثوابها أن من قامها بنيّة خالصة وعبودية صادقة كفّر الله عنه ما سلف من ذنوبه وخطاياه، فقد قال صلى الله عليه وسلم: "من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدم من ذنبه"، وندب رسول الهُدى أمته إلى التماس ليلة القدر في ليالي الوتر من العشر الأواخر، أو السبع البواقي من هذا الشهر الكريم، فقد روى الإمام مسلم في صحيحه عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "التمسوها في العشر الأواخر، فإن ضعف أحدكم أو عجز فلا يُغلبن على السبع البواقي"، وفي لفظ آخر له: "فمن كان متحرّيها فليتحرّها في السبع الأواخر"، وقد سألت أمّ المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها رسول الله عما تدعو به ليلة القدر إن هي علمتها، فأرشدها إلى أن تقول: "اللهم إنك عفوّ، تحبّ العفو، فاعف عنّي".
ما من فهذه أزمنة فاضلة ومواسم مباركة هيأ الحقّ عزّ وجلّ لعباده، تُضاعف فيها الحسنات، وتُقال فيها العَثَرَات، بما يقرِّب إلى الله تعالى، ويبلّغ رضاه، فليغتنم المرء هذه الفضائل الربّانية والمِنح الإلهية بالتزوّد بالصالحات، والمسابقة إلى الخيرات، والمحافظة على العبادات من صلاة وصيام، وصدقة وبرّ وإحسان، وعطف على الفقراء والأيتام، والإكثار من الاستغفار، وإدامة ذكر الله تعالى آناء الليل وأطراف النهار، فإن ذكر الله تعالى يزكّي النفوس، ويشرح الصدور، ويُورِث الطمأنينة في القلوب، كما قال عزّ شأنه: {أَلاَ بِذِكْرِ ٱللَّهِ تَطْمَئِنُّ ٱلْقُلُوب} [الرعد: 28 ]، وإن خير أنواع الذكر قَدْراً وأعظمها عند الله أجراً تلاوة كتاب الله الكريم الذي {لاَّ يَأْتِيهِ ٱلْبَٰطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 42]، فقد كان من هديه صلى الله عليه وسلم الإكثار من تلاوته في رمضان أكثر من تلاوته في غيره، وكان جبريل يأتيه في رمضان يدارسه القرآن، وقد أبان صلى الله عليه وسلم عن فضل تلاوة كتاب الله، وعظيم ثوابه بقوله: "من قرأ حرفاً من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول: ألم حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف".
ومما ينبغي التذكير به في هذه الأيام المباركة هو الحرص على آداء الزكاة، فإنها من آكد أركان الدين، ومن أجل محاسن الشرع المبين، فرضها الحقّ عزّ وجلّ لمصالح ومنافع عُظمى، فهي سبب لتزكية النّفوس، وطهارة القلوب، ونماء الأموال، ومن أكبر عوامل الألفة والمودّة بين المؤمنين، ومن أعظم مظاهر التكافل الاجتماعيّ بين المسلمين.
فليكن إخراجها كاملةا غير منقوص وبنيّة صالحة ونفوس مغتبطة، دون منٍّ ولا أذى، ومن غير استكبار ولا استعلاء، فقد قال جلّ وعلا: {مَّثَلُ ٱلَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوٰلَهُمْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلّ سُنبُلَةٍ مّاْئَةُ حَبَّةٍ وَٱللَّهُ يُضَٰعِفُ لِمَن يَشَاء وَٱللَّهُ وٰسِعٌ عَلِيمٌ ٱلَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوٰلَهُمْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُواْ مَنّا وَلا أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 261-262]، ذلك أن العمل الصالح إذا شابه شيء من الرِّياء أو السُّمْعَة كان من أسباب إحباطه وعدم قبوله، فقد جاء في الحديث القدسي عند مسلم وغيره أن رسول الله قال: "قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ فَمَنْ عَمِلَ لِيْ عملاً أَشْرَكَ فِيْهِ غَيْرِيْ فأَنَا مِنْهُ بَرِيْءٌ وَهُوَ لِلَّذِيْ أَشْرَكَ".