الحكمة في نسبة الصيام إلى الله [1-2]
- 1510
نعلم جميعا أن العبادات كلها لله، قال تعالى: ”قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ، لَا شَرِيكَ لَهُ وَبذَلكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ” (الأنعام: 162، 163)، فإذا كانت حياتنا كلها لله فلماذا خص الله الصوم لنفسه وأضاف بقية الأعمال لنا؟!! فعن أَبَي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، قَالَ اللَّهُ: ”كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إلا الصِّيَامَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ”(متفق عليه).
وإنه من الواجب علينا أن نبحث وندقق حول العلة التي من أجلها خص الله الصيام لنفسه دون بقية العبادات. وقد ذكر العلماء فى ذلك أقوالا كثيرة أرجعتها إلى ستة أوجه تتلخص فيما يلي: -
الوجه الأول: أن الصيام لا رياء فيه.
فالصوم لا يقع فيه الرياء كما يقع في غيره، فنرى والله أعلم أنه إنما خص الصيام لأنه ليس يظهر من ابن آدم بفعله وإنما هو شيء في القلب، ويؤيد هذا التأويل قوله: ”ليس في الصيام رياء”(شعب الإيمان للبيهقي) وذلك لأن الأعمال لا تكون إلا بالحركات، إلا الصوم فإنما هو بالنية التي تخفى عن الناس. وقد جاءت آياتٌ وأحاديث كثيرة تبين دخول الرياء في كثير من الأعمال كالجهاد والحج والصدقة وقراءة القرآن وغيرها بخلاف الصيام. قال القرطبي: لما كانت الأعمال يدخلها الرياء والصوم لا يطلع عليه بمجرد فعله إلا الله فأضافه الله إلى نفسه، ولهذا قال في الحديث ”يدع شهوته من أجلي” وقال ابن الجوزي: جميع العبادات تظهر بفعلها وقل أن يسلم ما يظهر من شوب، بخلاف الصوم . فالله اختص لنفسه الصوم من بين سائرِ الأعمال، وذلك لِشرفِهِ عنده، ومحبتهِ له، وظهور الإِخلاص له سبحانه فيه، لأنه سِرٌّ بَيْن العبدِ وربه لا يطَّلعُ عليه إلاّ الله، فإِن الصائمَ يكون في الموضِعِ الخالي من الناس مُتمكِّناً منْ تناوُلِ ما حرَّم الله عليه بالصيام، فلا يتناولُهُ ، لأنه يعلم أن له ربّاً يطَّلع عليه في خلوتِه، وقد حرَّم عَلَيْه ذلك، فيترُكُه لله خوفاً من عقابه، ورغبةً في ثوابه، فمن أجل ذلك شكر اللهُ له هذا الإِخلاصَ، واختصَّ صيامَه لنفْسِه من بين سَائِرِ أعمالِهِ ولهذا قال: ”يَدعُ شهوتَه وطعامَه من أجْلي”.
والمعنى على هذا الوجه: كل عمل ابن آدم له بكل حظوظه وشهواته إلا الصوم فإنه خاصٌ بي لا يناله شئ من حظ النفس وشهواتها.
الوجه الثاني: أن الله انفرد بعلم ثوابه.
أن المراد بقوله ”وأنا أجزي به”: أني أنفرد بعلم مقدار ثوابه وتضعيف حسناته، وأما غيره من العبادات، فقد اطلع عليها بعض الناس، فأضافَ الجزاءَ إلى نفسه الكريمةِ، لأنَّ الأعمالَ الصالحةَ يضاعفُ أجرها بالْعَدد، الحسنةُ بعَشْرِ أمثالها إلى سَبْعِمائة ضعفٍ إلى أضعاف كثيرة، أمَّا الصَّوم فإِنَّ اللهَ أضافَ الجزاءَ عليه إلى نفسه من غير اعتبَار عَددٍ، وهوَ سبحانه أكرَمُ الأكرمين وأجوَدُ الأجودين، والعطيَّةُ بقدر مُعْطيها، فيكُونُ أجرُ الصائمِ عظيماً كثيرا بِلا حساب، والصيامُ صبْرٌ على طاعةِ الله، وصبرٌ عن مَحارِم الله، وصَبْرٌ على أقْدَارِ الله المؤلمة مِنَ الجُوعِ والعَطَشِ وضعفِ البَدَنِ والنَّفْسِ، فَقَدِ اجْتمعتْ فيه أنْواعُ الصبر الثلاثةُ، وَتحقَّقَ أن يكون الصائمُ من الصابِرِين. وقَد قَالَ الله تَعالى: ”إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّـابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَاب” (الزمر: 10) قال القرطبي: معناه أن الأعمال قد كشفت مقادير ثوابها للناس وأنها تضاعف من عشرة إلى سبعمائة إلى ما شاء الله، إلا الصيام فإن الله يثيب عليه بغير تقدير، لأن الكريم إذا قال: أنا أتولى الإعطاء بنفسي كان في ذلك إشارة إلى تعظيم ذلك العطاء وتفخيمه. ويؤيد هذا ما جاء في الحديث الشريف عن ابن عمر، قال: قال رسول الله: ”الأعمال عند الله سبعة: عملان موجبان، وعملان بأمثالهما، وعمل بعشرة أمثاله، وعمل بسبعمائة، وعمل لا يعلم ثواب عامله إلا الله عز وجل، فأما الموجبان: فمن لقي الله يعبده مخلصا لا يشرك به شيئا وجبت له الجنة، ومن لقي الله قد أشرك به وجبت له النار، ومن عمل سيئة جزي بمثلها، ومن عمل حسنة جزي عشراً، ومن أنفق ماله في سبيل الله ضعفت له نفقته الدرهم بسبعمائة، والدينار بسبعمائة دينار، والصيام لله عز وجل، لا يعلم ثواب عامله إلا الله عز وجل” (ضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة) وللأمانة العلمية إذا كان بعض العلماء ضعف طرق هذا الحديث، فإنه صحيح من ناحية مدلوله الشرعي، لأن كل عمل من هذه الأعمال السبعة وجزاؤه قد جاء في آيةٍ من كتاب ربنا أو حديثٍ صحيحٍ صريحٍ من سنة نبينا وأنت بذلك خبيرٌ. والمعنى على هذا الوجه: كل أعمال ابن آدم له قد كشفت مقادير ثوابها للناس وأنها تضاعف من عشرة إلى سبعمائة إلى ما شاء الله، إلا الصيام فإني أثيب عليه بغير تقدير، فأنا أتولى الإعطاء بنفسي، وفي ذلك إشارة إلى تعظيم ذلك العطاء وتفخيمه.
الوجه الثالث: إضافة تشريف وتعظيم
في قوله ”كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي”، إضافة الصوم إلى الله إضافة تشريف وتعظيم، كما يقال بيت الله وإن كانت البيوت كلها لله، قال ابن المنير: التخصيص في موضع التعميم في مثل هذا السياق لا يفهم منه إلا التعظيم والتشريف. ولو نزلنا إلى أرض الواقع لوجدنا أن الإنسان يفخر بحسبه ونسبه أنه ابن الرئيس فلان أو الوزير فلان، أو كُرِّمَ من فلان وصُوِّرَ في ألبومٍ أو فيديو مع فلان، وهذا مخلوقٌ مثلك فما بالك لو كان هذا الشرف وهذه الإضافة لله جل في علاه!!!! والمعنى على هذا الوجه: كل عمل ابن آدم مضافٌ له ومنسوبٌ إليه، إلا الصوم فإنه لشرفه وفضله من بين سائر العبادات مضافٌ لي ومنسوبٌ إليَّ وأنا أجزي به.
(يتبع)