الحكمة في نسبة الصيام إلى الله [2-2]
- 1341
الوجه الرابع: الصوم من صفات الرب والملائكةأن الصوم من صفات الرب والملائكة، فالإنسان مخلوقٌ من جسدٍ وروحٍ، وغذاء الجسد من جنس ما خلق منه وهو الأرض والطين، وغذاء الروح من جنس ما خلقت منه في الملأ الأعلى ”فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن روحِي”( الحجر: 29 )، فالصائم لا يطعم، والله تعالى وصف نفسه فقال: ”وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ” (الأنعام : 14)، وحينما يمتنع الإنسان عن غذاء الجسد ـ الذي يشترك فيه مع باقي دواب الأرض فالحكمة في هذه الحال ـ أعني حالة صيامه ـ يكون قد حمل صفة من صفات الرب والملائكة، لأن الاستغناء عن الطعام وغيره من الشهوات من صفات الرب جل جلاله، فلما تقرب الصائم إليه بما يوافق صفاته أضافه إليه.
وقال القرطبي: معناه أن أعمال العباد مناسبة لأحوالهم إلا الصيام فإنه مناسب لصفة من صفات الحق، كأنه يقول إن الصائم يتقرب إليَّ بأمر هو متعلق بصفة من صفاتي، فكأن الصائم اتصف بصفة من صفات الله تعالى على قدر ما يليق من البشرية، وكماله لله على استحقاق الربوبية، كما أن العالم منا والكريم والرحيم متصف بصفة يستحقها الله، وللعبد فيها نسبة على قدر البشرية، ألا ترى أنك تقول فلان رحيم وفلان كريم وفلان بصير.. وهكذا، فلما كان كذلك يجوز أن يكون خصوص الإضافة إلى نفسه في الصوم المشترك بين العبد وربه وملائكته.
والمعنى على هذا الوجه: كل أعمال العباد مناسبة لأحوالهم إلا الصيام فإنه مناسب لصفة من صفاتي، وكأنه يقول: إن الصائم يتقرب إليَّ بأمر هو متعلق بصفة من صفاتي، فأنا أجزي به.
الوجه الخامس: الصيام لم يعبد به أحدٌ غير الله
إن الصيام لم يعبد به أحدٌ غير الله، فالصوم لا يدخله شرك بخلاف سائر الأعمال كالصلاة والصدقة والطواف والذبح والنذر وغير ذلك من أنواع العبادة، فإن المشركين يقدمونها لمعبوداتهم، وكذلك الدعاء والخوف والرجاء، فإن كثيرًا من المشركين يتقربون إلى الأصنام ومعبوداتهم بهذه الأشياء بخلاف الصوم، فما ذكر أن المشركين كانوا يصومون لأوثانهم ولمعبوداتهم، فالصوم إنما هو خاص لله عز وجل. والمعنى على هذا الوجه: كل أعمال العباد عَبَدَ وتَقَرَّبَ بها العباد لغير الله إلا الصيام فإنه لي لم يعبد به غيري فأنا أجزي به.
الوجه السادس: الصوم لا مقاصة فيه
إن الصوم لا مقاصة فيه، ومعنى ذلك أن الإنسان يأتي يوم القيامة ومعه حسنات كالجبال، ولكنه عليه مظالم تستغرق كل حسناته، فجميع العبادات توفى منها مظالم العباد إلا الصيام، فالاستثناء يعود إلى التكفير بالأعمال.
ومن أحسن ما قيل في ذلك ما قاله سفيان بن عيينة رحمه الله قال: هذا من أجود الأحاديث وأحكمها: ”إذا كان يوم القيامة يحاسب الله عبده، ويؤدي ما عليه من المظالم من سائر عمله حتى لا يبقى إلا الصوم فيتحمل الله عز و جل ما بقي عليه من المظالم ويدخله بالصوم الجنة” (أخرجه البيهقي في شعب الإيمان وسننه الكبرى)، فالصيام لله عز وجل ولا سبيل لأحد إلى أخذ أجره من الصيام بل أجره مدخر لصاحبه عند الله عز وجل، فالصوم لا يسقط ثوابه بمقاصة ولا غيرها بل يوفر أجره لصاحبه حتى يدخل الجنة فيوفى أجره فيها.
فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: ”أَتَدْرُونَ من الْمُفْلِسُ؟ قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لا دِرْهَمَ لَهُ وَلا مَتَاعَ، فَقَالَ: إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلاةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي وقَدْ شَتَمَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا وَأَكَلَ مَالَ هَذَا وَسَفَكَ دَمَ هَذَا وَضَرَبَ هَذَا، فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ، أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ”(أخرجه مسلم)، فظاهره أن الصيام مشترك مع بقية الأعمال في ذلك، ولكن الأحاديث الصريحة خصصت الصيام من ذلك، فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله: ”كل العمل كفارة إلا الصوم، الصوم لي وأنا أجزي به” (مجمع الزوائد، للهيثمي، وقال: رجاله رجال الصحيح).
والمعنى على هذا الوجه: كل عمل العبد ملك له يتصرف فيه في المظالم والكفارات والمقاصة وغيرها، إلا الصوم فإنه ملك لي، أتحمل مظالم العبد كرماً مني وشرفاً للصوم، وأدخر الصوم لعبدي يدخل به جنتي.
فهذه أوجه ستةٌ في إضافة الصوم لله وخصوصيته به، والناظر في هذه الأوجه الست يجد أنها كلها مجتمعة في الصوم، لأنه لا تعارض بينها، فهي اختلاف تنوع وتوجيه وتفسير، لا اختلاف تضاد.
والدرس المستفاد من ذلك الذي يجب تطبيقه على أرض الواقع هو المسارعة والمسابقة إلى اغتنام رمضان لما فيه من الخير العظيم والثواب الجزيل الذي أعده الله للصائم ولم يطلع عليه أحدٌ إلا الله، ويحضرني في ذلك حديثٌ شريفٌ يبين رفعة الصوم وفضله على جميع العبادات، فعَنْ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ أَنَّ رَجُلَيْنِ مِنْ قُضَاعَةَ أَسْلَمَا مَعَ النَّبِيِّ وَاسْتُشْهِدَ أَحَدُهُمَا وَأُخِّرَ الآخَرُ سَنَةً، قَالَ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ: فَأُرِيتُ الْجَنَّةَ فَرَأَيْتُ فِيهَا الْمُؤَخَّرَ مِنْهُمَا أُدْخِلَ قَبْلَ الشَّهِيدِ فَعَجِبْتُ لِذَلِكَ، فَأَصْبَحْتُ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ فَقَالَ: ”أَلَيْسَ قَدْ صَامَ بَعْدَهُ رَمَضَانَ وَصَلَّى سِتَّةَ آلافِ رَكْعَةٍ أَوْ كَذَا وَكَذَا رَكْعَةً صَلَاةَ السَّنَةِ”(صحيح الترغيب والترهيب، الألباني).
فالذي تأخر سنة صام شهراً واحداً من رمضان زيادة على صاحبه جعله سابقاً إلى الجنة قبل الشهيد، فحرىٌّ بك يا عبد الله أن تغتنم هذا الشهر وأنت على عتبة وداعه، فكم من رمضان مضى عليك وأنت غافل، وهذا الصحابي سبق الشهيد برمضان واحد وأنت مضى وسيأتى عليك رمضاناتٌ كثيرةٌ فماذا أنت فاعلٌ؟!
❊ (انتهى)