أصبح وجهة الآلاف من الجزائريين في ليالي رمضان

حناجر من "ذهب" تصدح بالقرآن في جامع من "ذهب"

حناجر من "ذهب" تصدح بالقرآن في جامع من "ذهب"
  • 285
أحلام محي الدين أحلام محي الدين

إذا كنت ترغب في تعبئة طاقتك الروحية لأعلى مستوى واستنشاق نسائم الرحمة خلال سهرات الشهر الفضيل، وتشنيف الآذان بسماع تلاوات عطرة للقرآن الكريم، والاستمتاع بجمال الطبيعة والعمران، فإن "جامع الجزائر" مقصدك لأداء صلاة التراويح، وكل يوم من أيام السنة.. وما على كل طالب علم طموح إلا إثبات الجدارة في مسابقة المستوى، للحصول على دكتوراه في علوم شتى؛ فالمتنافسون كثر؛ إذ تؤمّن دار القرآن أو مدرسة العلوم الشرعية 300 مقعد بإقامة أربع نجوم لمن اجتهد.

وبعد أن فتحت أبوابها للطلاب الجزائريين سيكون هناك نصيب، أيضا، لطلاب العلم الأجانب. وقد تحدّث، في هذا الصدد، عميد الجامع محمد القاسم مأمون الحسني، عن رغبة السيد رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون، في أن تكون المدرسة موجهة للعمق الإفريقي، ودول الساحل، وحتى الفضاء الأورو متوسطي.

صرح وجمال اختصر كل العوالم

زيارتنا لـ"جامع الجزائر" كانت في ليلة رمضانية من العشر الأولى لإجراء هذا الربورتاج؛ إذ وجدنا أنفسنا قبالة صرح عظيم، وقطب مشع، وفضاء تحفّه الروحانية حد القشعريرة، فما إن تطأ قدماك مدخل الجامع حتى يخيَّل لك أنك في مكان اختزل العوالم كلها، إذ تصيبك بعض نسائم الحرم المكي الشريف.

وعندما تتوغل في العمق بعد أن تمشي مسافة لا بأس بها، تجد نفسك أمام أبواب كبيرة مزخرفة بالنحاس، يخيَّل لك أنك أمام أبواب المسجد الأزرق بتركيا، فخر الحضارة العثمانية. وبعد أن تدخلها تقابلك ساحة كبيرة، جمالها يبهر الناظرين؛ إنها عبق من روح قرطبة... فناء من قصور الأندلس الساحرة، ورخام شديد البياض، يذكّرك فورا بتاج محل بالهند. في فناء الجامع تسمع رقرقة المياه المنبعثة من نافورات كبيرة مستطيلة الشكل. وتشاهد على امتداد البصر، الأشجار والنباتات الخاصة التي زينت الفناء الكبير.

توثيق للتراث الإسلامي

أبواب الجامع كثيرة وكبيرة، إذ تم تركيب 7 آلاف باب من مختلف الطرازات، مغطاة بالنحاس، وأخرى خشبية بألواح مزخرفة. تُوّجت قاعة الصلاة بجامع الجزائر بقبة عظيمة، تظهر من بعيد، ذات جدارين، قبة داخلية وأخرى خارجية زادت الشكل العام فخامة. ويعلوها جامور طُلي بورق الذهب، أضاف لمسة إبداع لشكل المقرنصات.

ويبلغ قطر الجدار الخارجي حوالي 50 مترا، وارتفاعها 27 مترا، وتبعد عن سطح الأرض بحوالي 44 مترا. وتتكون من عناصر مصنوعة من خرسانة مسلحة بالألياف مطلية على شكل أوراق شجر. ويبلغ قطر الجدار الداخلي 39 مترا وارتفاعه إلى 20 مترا. ويتكون من طيّات وثنايا مزودة بفتحات تسمح بمرور الضوء الطبيعي بشكل غير مباشر، وتعديله داخل قاعة الصلاة. 

أما المحراب ـ وهو أهم عناصر قاعة الصلاة وقبلتها ـ فيحاكي تصميمه محراب الجامع الكبير بتلمسان، ارتفاعه (17.4) مترا، وعرضه (16.9) مترا. ينقسم إلى جزءين رئيسين هما: الواجهة والكُوَّة. وزُيِّن المحرابُ بزخارف الخط الكوفي والنباتات في جزئه الرخامي. أما المساحة العظمي فمن المرمر العسلي المضيء. ونُقشت عليه أسماء الله الحسنى، كما تُميِّزه خمس شمسيات، وتقاسيم هندسية، وعقد في جزئه السفلي. ويتكون محراب جامع الجزائر من عناصر إبداعية، كانت لها في الماضي وظيفة معمارية، إلا أنها أصبحت تستخدم كعناصر زخرفية في الطراز المغاربي الأندلسي.

وقد أُنجز المحراب على رخام ذي جودة رفيعة، منه الرخام العادي، ومنه المرمر. ويوجد بالجامع 70 ألفا من المصابيح الضوئية الموزعة في كل أرجائه بمختلف أشكالها وأحجامها. ويبلغ وزن الثريا المركزية بقاعة الصلاة ـ وهي أكبر ثريا بالعالم ـ 9.5 أطنان،  وقطرها 14 مترا. كما إن عدد الأجزاء العلوية للثريا جاءت في شكل مسبحة تحمل الباقيات الصالحات: "سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم"، وهي 33 جزءا.

ويحتوي جامع الجزائر على ما يقرب من 6 آلاف متر من الخط، موزعة على المباني المختلفة للمُجمّع، وعلى عدة دعامات. وهي الحجر الطبيعي الترافرتين والرخام، ولكن أيضا على الخشب والجص.  وقد تم اختيار النصوص القرآنية، وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، بالإضافة إلى الاقتباسات الأخرى، من قِبل لجنة، كانت مهمتها اختيار النصوص، والتحقق من كتابتها من قبل الخطاطين، ومن صحتها، وكذلك التحقق من العمل بمجرد تثبيته في الموقع.

الزخرفة بجامع الجزائر وُجدت لتوثيق التراث الإسلامي الجزائري والحفاظ عليه، ونقله للأجيال ما بقي هذا الصرح الحضاري قائما.  كما يوجد بالجامع 618 عمود منتشر في كل أرجائه وساحاته، بما فيها الأعمدة العملاقة بقاعة الصلاة. 

منارة  جامع الجزائر تُعد أطول منارة وظيفية في العالم، طولها 265 متر. وتبلغ طاقة استيعاب الجامع بجميع باحاته على غرار قاعة الصلاة، والصحن، والفناء والساحة، 120 ألف مصل.  وتزيِّن جامع الجزائر حديقة هندسية، مساحتها 170 ألف م2، تتوسط جنبي الجامع الشمالي والجنوبي. غُرست بها أشجار جاء ذِكرها في القرآن الكريم، مثل التين والزيتون والرماّن، ونباتات عطرية أخرى ذات روائح زكية، على غرار السدر وإكليل الجبل. كما توجد أنواع من الورود بين مربعات الحديقة، مثل الورد الجوري، والورد الدمشقي.

حرص على أخذ الصور التذكارية والاستمتاع بهدوء المكان

شد انتباهنا وقوف جموع الزائرين طويلا على مشارف أبواب الجامع، وعلى أطرافه، وفي كل مكان به، وحتى بقاعة الصلاة وفي الفناء، لأخذ صور تذكارية وسط الهدوء الذي يمكن أن تستشعره رغم أن الفناء والساحة كانا يعجّان بالمصلين، الذين قدموا لأداء صلاة التراويح رجالا، ونساء، وأطفالا، وشبابا، وكهولا وشيوخا، الكل جاء للغنيمة، كيف لا وهي ليال رمضانية في رحاب الجامع الصرح، للاستماع لقراءات عطرة للمقرئين، فقد أشار بعض الزوار في حديثهم معنا، إلى أن أغلبهم جاء للزيارة أول مرة، ومنهم من جاء من ولايات مجاورة لصلاة التراويح ونيل الأجر، مؤكدين أنه موعد روحاني مع مزامير داود الجزائرية في الليالي المباركة، على غرار الشيخ محمد الأمين بنونة، وعبد العزيز السحيم، ومحمد رضا بزيان، والشيخ القارئ محمد إرشاد مربعي، والشيخ فارس شداد، والشيخ عبد النور باديس. وأكد شباب في حديثهم أن الطاقة الروحية التي تشبّعوا بها خلال صلاة التراويح، أنستهم متاعب الدنيا. وأوضحت سيدات أنهن انبهرن بجمال المكان، وحلاوة القراءات.

مركز إشعاع حضاري ورمز الوسطية والاعتدال

أكد بلقاسم عجاج، المكلف بالإعلام بجامع الجزائر، أن الجامع، كما جاء في تأكيد رئيس الجمهورية خلال الافتتاح الرسمي، مركز إشعاع عالمي. وقد أعطاه تسمية "منارة إفريقية متوسطية". وقال: "الآن اشتغلت حركة السيرورة ليكون منارة، فالأنشطة التي يقوم بها عميد جامع الجزائر محمّد المأمون القاسمي الحسني على المستوين المحلي والدولي، كثيرة، على غرار خرجته إلى سلطنة عمان، وزيارته لمختلف المواقع، وتبادل الآراء والرؤى، ودراسة إمكانية التعاون المستقبلية التي ستكون بين الجامع ومختلف الأقطاب الدينية عبر العالم، لإبراز الدور الريادي لجامع الجزائر كواجهة دينية لصورة الجزائر في الخارج".

وأضاف محدثتنا أن "جامع الجزائر" هو جامع لكل الجوامع، لكل الجزائريين؛ إذ نجد شعاره حصن المرجعية الدينية الجامعة، فبعد مرور عام على افتتاحه الرسمي من قبل رئيس الجمهورية في فيفري 2024 الماضي الموافق لمنتصف شعبان 1445، تعمّه اليوم حركة كبيرة على مستوى كل مؤسساته وهيئاته الثمانية، فالجامع ليس فقط للصلاة، وإنما هو مركب، ومركز إشعاع ديني، وحضاري، وثقافي، وعلمي وسياحي.

ويشرح المتحدث قائلا: "نجد أن مختلف الهيئات كقاعة الصلاة، فيها ستة أقسام مختلفة بما فيها الدرس والخطابة، وقسم الإفتاء، وقسم التعليم القرآني، وقسم شؤون المرأة والأسرة، وقسم الكراسي العلمية التي انطلقت منذ الافتتاح، وأبرزها كرسي أبو مدين شعيب الغوثي للحكم العطائية، وكذلك كرسي الإمام الونشريسي لشرح مختصر الشيخ خليل، الذي يركز على العقيدة الأشعرية في طريق الجنيد السالك، وكله لتثبيت المرجعية الدينية الجامعة".

وتقام بالجامع عدة ندوات وملتقيات، منها ما يقام على مستوى قاعة الصلاة. وهناك ندوات فكرية تقام بالمركز الثقافي، الذي يُعد مركزا لكل الثقافات وليس منحصرا على الشأن الإسلامي فقط. كما يوجد بالجامع مكتبة تسع مليون كتاب، مردفا: "نحن في طور الوصول إلى هذا العدد".

وعن هياكلها ووظائفها قال السيد بلقاسم عجاج: "دار القرآن هي المدرسة العليا للعلوم الإسلامية، خاصة بالدكتوراه. والطالب لديه إقامة لمدة سنتين كاملتين، مع التفرغ الكلي. وأول شرط للحصول على الشهادة، متعلق بحفظ القرآن الكريم، فبحوزة الطالب خمس سنوات لإتمام الحفظ، ومنه الحصول على الشهادة، علما أنها لا تخص العلوم القرآنية فحسب، كما يعتقد البعض، فهي مدرسة عليا للعلوم الإسلامية، ولكنها مختصة أيضا، في العلوم الكونية.

تحتضن 12 تخصصا منها العلوم الشرعية، والقرآن والمقاصد، والقرآن والمعارف، وأيضا في علم النفس التربوي، الإكلينيكي، والعيادي، وتخصص في التراث والعمران، والاقتصاد والمال، وتخصصات تكنولوجية مالية، وأسواق المالية، والصيرفة الإسلامية، إضافة الى تخصص في الرياضيات؛ حيث يُدرَّس تاريخ العلوم، والجبر والهندسة، وغيرها ". وبعد المسابقة التي تقدم لها أكثر من ألف مترشح، استفاد من الدراسة بها 80 طالبا، تم اختيارهم بعد اجتياز الاختبارات الكتابية والشفاهية من قبل اللجنة.

وأضاف المتحدث: "المدرسة إقاميه تسع 300 طالب، بمثابة فندق أربع نجوم. يُشترط أن يكون الطالب متحصلا على ماستر 2 أو  ماجستر بالتعليم القديم، أو مهندسا، علما أن الدفعة القادمة ستكون مفتوحة للأجانب، فالسيد عميد الجامع محمد القاسم مأمون الحسني، حفظه الله، تحدّث عن هذا في عدة لقاءات مؤخرا، خاصة مع الزيارة التي قام بها وزير النيجر وكذا وزير مالي وموريتانيا، حيث تحدث عن رغبة السيد رئيس الجمهورية في أن تكون المدرسة موجهة للعمق الإفريقي، ودول الساحل، وحتى الفضاء الأورو متوسطي، فبهذا ستكون مفتوحة للأجانب المسلمين ودول الجوار".

وأضاف عجاج: "هناك أيضا مؤسستان في المنارة، على اعتبار أنها منارة وظيفية، فيها منصة مشاهدة، ومركز بحوث العلوم الدينية وحوار الحضارات، يمتد على عشرة طوابق لتكريس معنى الحوار مع الآخر، والحوار الحضاري. هناك أيضا مؤسسة متحف الحضارة الإسلامية بالجزائر، تمتد على 15 طابقا، فيها كل تفاصيل الحضارة الإسلامية عبر الأزمان بالجزائر، أي أن هناك حركة ثقافية، وعلمية، ودينية بالمركب، متكاملة، وهذه هي خصوصيات جامع الجزائر التي لا توجد في غيره؛ فهو مركز إشعاع، وصورة الجزائر بالخارج".

هيئة المجلس العلمي لتقديم الفتاوى

أوضح عجاج أن هيئة المجلس العلمي بجامع الجزائر، تسهر على تأطير كل الهيئات في الجانب العلمي، وهي مختصة في تقديم الفتاوى للسلطات العليا في البلاد، وتقديم الاستشارة في المجال الديني بالأخص.  ويتكون المجلس من علماء في مختلف التخصصات؛ في العلم الشرعي، والفيزياء، والرياضيات، والعلوم الإنسانية، والفقه وأصول الدين، وهو مكون من النخب والطاقات، والكفاءات الجزائرية؛ ما يسمح لها بإصدار فتوى في أعلى مستوى للسلطات العليا، أو تقديم الاستشارة الدينية في ما يخص الحفاظ على المرجعية الدينية بالجزائر بصفة عامة" .

وأضاف بلقاسم عجاج أن الجامع فتح أبوابه لتحفيظ القرآن الكريم لكل الفئات. وأضاف: "نشرنا إعلانا لتحفيظ القرآن الكريم للصغار؛ حتى يتسنى لآبائهم تسجيلهم، وحتى الكبار والنساء على مستوى الفضاء الجديد. هناك أقسام للتحفيظ. وبالنسبة للعمال فلديهم فترات بين المغرب والعشاء"، مضيفا أن بالنسبة للنساء تقام ندوات باستمرار، على مستوى سدة النساء في الفضاء المسجدي، مع الدكتورة عقيلة حسين، التي ترأس قسم شؤون المرأة والأسرة، إلى جانب التعليم القرآني.

وبالنسبة لنشاط مديرية الإعلام قال عجاج: "نحن متواجدون على ثماني منصات إلكترونية تحت عنوان جامع الجزائر، إضافة إلى الموقع الرسمي الذي يؤدي خدمة النشرة البريدية، أي كل مشترك تصله الرسالة البريدية حول كل ما يُنشر. وهناك أول دورية إعلامية لجامع الجزائر، عُرضت من خلالها كل نشاطات الجامع والعميد، تزامنت مع الذكرى الأولى للافتتاح الرسمي لجامع الجزائر"..

مشاركة قوية للجامع في النشاطات الاجتماعية

يقوم الجامع، أيضا، بمبادرات خيرية بالتعاون مع شركات ورجال أعمال؛ على غرار التبرع بالدم، مع الوكالة الوطنية للدم، والحملات التحسيسية مثل حماية الغابات والمحافظة عليها خلال العام الماضي، بالشراكة مع محافظة الغابات، لا سيما أن الجامع يستقطب حوالي  ألف زائر يوميا، مع تسجيل حضور 50 ألف مصلّ خلال الليلة الأولى من صلاة التراويح العام الماضي.