ظالم لنفسه، مقتصد وسابق بالخيرات
- 5264
للناس في وداع رمضان أحوال، "فمنهم ظالم لنفسه، ومنهم مقتصد، ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله، ذلك هو الفضل الكبير". (فاطر ٣٢)
فالظالم لنفسه هو المفرط في بعض الواجبات، المرتكب لبعض المحرمات. والمقتصد وهو المؤدي للواجبات التارك للمحرمات، وقد يترك بعض المستحبات ويفعل بعض المكروهات. أما السابق بالخيرات فهو الفاعل للواجبات والمستحبات، التارك للمحرمات والمكروهات وبعض المباحات، وهي أحوال كتلك التي كانت لهم في صحبة رمضان، فمن أجاد الصحبة وأحسن المعاشرة وكابد أشواق الطاعات فأخلص الصيام وأطال القيام، أحس لوعة الفراق، كما قال معاذ رضي الله عنه في وداع الدنيا باكيا: "اللهم إنك تعلم أني لم أكن أحب الدنيا لغرس الأشجار ولا لجري الأنهار، ولكن لظمأ الهواجر ومكابدة الليل، ومزاحمة العلماء بالركب"؛ فهذا حري أن يقبل منه، وأن يودعه رمضان آسفا لوداعه.
ومن أساء الصحبة وأغفل الواجبات وأطال النوم وقصر في الصيام والقيام، هان عليه الفراق، وهان أمره على رمضان، فلم يخرج منه إلا كما قال صلى الله عليه وسلم: "ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش، ومن قيامه إلا النصب والتعب"، "فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين".
هكذا يمضي هذا الضيف كريم الوفادة، كريم المعاشرة، كريم المفارقة، اللطيف في حله وترحاله، وقد أخذ من حبات نفوسنا شيئا، ومن أيام عمرنا جزءا لا يرجى أن يعود، إلا أن يكون كمثله، وحمل معه خبرنا إلى العليم الخبير، فيسأله وهو أعلم بحالنا، عن أعمالنا فيه، فيخبره بخبرنا، فتكتب شهادته وتؤخر حتى تعرض علينا يوم العرض، فإما أن يكون لنا شفيعا، وإما أن يكون محاججا شاهدا علينا لا لنا بما قصرنا وما أسأنا، وما داخل أعمالنا من شوائب الإخلاص.
فها هو شهر الأيام المعدودات ما لبث أن انفض.. فربح فيه من ربح، وخسر فيه من خسر، كانت تحفه النفحات من كل حدب وصوب، وتغمره البركات، وتشهده الطاعات، تفتح أبوابها لكل مقبل ينهل على قدر همته، ويحمل من الخير على قدر جهده، تضاعف الحسنات إلى أضعاف كثيرة لا يعلمها إلا الله، "إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به"، والكل غاد فيه ورائح، فمن منكب على القرآن وتلاوته، أو القيام وحلاوته، أو الذكر وطلاوته، تنزل الملائكة كل ليلة بأمر ربها تحف الذاكرين الراكعين الساجدين القانتين، وتبارك مجالسهم ومساجدهم، وتستغفر لهم آناء الليل وأطراف النهار، ويباهي الحق بهم الملائكة، ويغدو خلوف فم الصائم أطيب عند الله من رائحة المسك؛ كرامة لما أظمأ وأضحى في نهاره. وتسمو أرواحنا تكاد تحلق بالأجساد. وتغل شياطين الجن والنفس حين يضيق عليها بالجوع في مجرى الدم، فتنقى من درنها النفوس، وتزكى حتى تفلح، وتصير مطمئنة راضية مرضية بعد أن كانت أمارة لوامة.
ومع كل هذا الخير العميم الوفير نجد كثيرا من المغبونين، قعدت هممهم حتى انفض شهر الصيام، ونفق البيع والشراء، وجاءوا ببضاعة مزجاة، فلم يخرجوا من كل ذلك إلا بالخسران بما قصروا في أعمالهم، وما أسرفوا على أنفسهم، "ولا يظلم ربك أحدا". وقد نودي كل منهم قبل رمضان: "ياباغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر"، فلم يقبل على الخير، ولم يستطع أن يحجم نفسه الأمارة عن الشر، ولم ير في رمضان إلا تعذيبا للنفس، ولو عقد العزم لأخلص النية وشمر على ساعد الجد، واستعان بربه أن يعينه على الصيام والقيام، وابتغى وجه خالقه، فدحض شهوات نفسه لوجد الله معينا توابا رحيما، وليسر له ما نوى وعزم، ولأمضى الشهر مع المخبتين المقبلين حتى صار من الفائزين.
وأنى له أن يفوز وقد خسر في هذا المضمار الذي لا يخسر فيه أحد إلا الخاسرون إذا كانت تجليات المولى تعالى على عباده ورحماته لا تنقطع آناء الليل وأطراف النهار، ورحماته يشرئب لها كل عاص ومذنب ومعرض ومشاقق أراد أن يستغل مواسم الطاعة ودعوات الحق لعباده بالإقبال، فألقى خلفه شقاقه وذنوبه وأسرع إلى ربه معجلا، وقد رأى ما رأى من الفيوضات فتعرض لها رجاء أن تصيبه، وهو يعلم أنه يلقى برحله على باب الكريم الذي لا يخيب من قصده ولا يضيع من رجاه. وأما الآخر فلم تجد معه كل هذه الرحمات والفيوضات، ولم يستطع التفلت من نفسه الأمارة بالسوء، ولا يتخلص من غلائل شهواته، ولو استعان بربه مخلصا لأعانه على عدوه وحال بينه وبينه حتى يخلصه له وحده..
للصحبة الجميلة وقع في النفس وانشراح في الصدر وفرحة في القلب لا يعدلها شيء من عطايا الدنيا، يصب فيه الخير صبا، وينثر فيه الرزق على الخلق من رب كريم، وينشر فيه ديوان العلم والذكر "في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيه اسمه"، وتعظم فيه الحرمات، وتزكو فيه الطاعات، وتوصل فيه الأرحام، وتجلى فيه القلوب من الأدران والأحقاد، ويصير الجسد الواحد واحدا بعد أن كان مفرقا وكما أريد له في المنهج المنزل. ويعود المؤمنون أخوة صفا، ويتداعى الجسد لأوصاله المقطعة في كل البلدان بالدعاء والرجاء أن ينفث الله كربهم، ويفك أسرهم، ويحمل ضعيفهم، ويغني عائلهم، وتصير بقاع الأرض كأنما أصبحت حكرا على هذه الشعيرة في مشارق الأرض ومغاربها للمسلمين، لا ترى ممن بقي على الدين الحق غيرهم، ولا يصعد ذكر إلى السماء إلا من ديارهم، ولا يباهى أهل السماء إلا بهم، وكأنما يقول الحق لهم هذا مصداق قولي: "ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون، إن في هذا لبلاغًا لقومٍ عابدين". (الأنبياء: 105-106)
ولما كان لكل عبادة فوائد ومواعظ وعبر وحكمة، فمن لم يعتبر ويتعظ فلن يخرج من رمضان إلا بحظ منقوص، فإذا كان المسلم قد حقق على المستوى الفردي ما حقق وما وثق به عهده مع ربه، فإن لهذه الشعيرة حكمة جمعية لا ينبغي أن ندعها خلف ظهورنا، فمن لم يحمل هم هذه الأمة لا يحق له أن يكون منها، ولو أن يكون ذلك بجهد المقل، وهو الدعاء لإخوانه بظهر الغيب، وأن يهيئ الله لهذه الأمة أمر رشد، يعز فيه أهلها، ويجعل دائرة السوء على أعدائها الذين يتربصون بها الدوائر، ولن يمكن لإقامة هذه الشعائر كما ينبغي إلا بالتمكين للأمة أن يكون لها الغلبة والسيادة في الأرض، ولن يمكن لها كذلك إلا بإقامة الشعائر كما أراد الله لها في النفس والواقع، لقوله جل وعلا:
" وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكّنن لهم دينهم الذي ارتضىٰ لهم وليبدّلنهم مّن بعد خوفهم أمنًا يعبدونني لا يشركون بي شيئًا ومن كفر بعد ذَٰلك فأولَٰئك هم الفاسقون" (النور: 55).
وكما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "ما نزل بلاء إلا بمعصية، ولا رفع إلا بتوبة"، فما حلت هذا البلاءات إلا بالإعراض عن دواعي التمكين، وما نخرت عظام الأمة إلا الفرقة والإغفال عن حكمة الشعائر وإقامتها على قلب رجل واحد.. فنحن تجمعنا من مشرق الأرض إلى مغربها شعيرة الحج، وتجمعنا كذلك شعيرة الصيام والقيام، ورب واحد، وقبلة واحدة ودين واحد.. وما التفرق، إلا لأننا نؤدي الهيئة التعبدية بدون إقامة الحكمة الجمعية منها، وهي التداعي لكل عضو في أقطار الأرض من أهل الإسلام بما يهمه ويحزنه، وهذا هو عين الحكمة وأول لبنة في صرح التمكين.
ولا تزال هذه الأمة في بلاء لا يودي بها إلى الفناء أبدا، طالما دوت بين جنباتها هذه الآيات البينات، وصدحت بها الحناجر تحيي ليلها وتظمئ نهارها، ولا ينقطع حبلها مع الله أبدا، وطالما أقيم هذا الدين في النفوس (شعائره) وعلى الأرض من مشرقها إلى مغربها فإن رب هذه الأمة لن يتركها تهلك.