هل يضعف الصوم مناعة الجسم؟
- 2328
يمثل ما يمر به العالم في الوقت الراهن لحظة تاريخية مفصلية في تاريخ البشرية المعاصر لم تواجه مثله من قبل. فقد جعل فيروس الكورونا المعروف علميا باسم (SARS-COV2)، المسبب لمرض (COVID-19)، والذي شكل تحديا كبيرا العالمَ، وساقه إلى أن يسارع بشكل جماعي ومنفرد في سعي محموم لكبح جماح هذا الوباء والحد من انعكاساته وآثاره المدمرة على الحياة والاقتصاد.
ومع اقتراب شهر رمضان المبارك، بدأت تظهر بعض الفتاوى، بل الدعاوى لأن الفتوى شرعية تنطلق من قواعد ثابتة وحقائق راسخة، وأقلها غلبة الظن ورجحانه، وليس أضعف الظن والاحتمال. تلك الدعاوى التي تدعو إلى إجازة الفطر للعامة في شهر رمضان 2020، بحجة تأثير الصيام يضعف المناعة، ويزيد خطر العدوى بهذا الفيروس الخطير، والتعظيم من خطر النازلة التي نعيش.وكون هذه الدعوى تمس جانبًا فقهيا تعبديا، فلا مجال للأخذ والتسليم بتلك الدعوى إلا بوجود دليل علمي قطعي يستوجب تعطيل تلك الشعيرة العظيمة، وتلك العبادة الجليلة التي يتلهف المسلمون شوقًا إليها كل عام. كما أن نقض تلك الدعوى يتطلب استحضار الدليل العلمي الذي ينفي ذلك الضرر المحتمل للصيام على مقاومة الجسم لتلك العدوى المحتملة.
وفي هذا يقول الدكتور معز الإسلام فارس الأستاذ المشارك في التغذية العلاجية والحميات، أنه بالنظر إلى مجموع الدراسات العلمية الرصينة المنشورة في الدوريات العلمية المحكمة، وذات العلاقة بالمناعة وأنواع الصيام، ومنها صيام رمضان، نجدها قد توزعت على جوانب عدة متصلة بالصيام والمناعة.
ومن هذه الدراسات تلك التي أجريت على صيام شهر رمضان على الأصحاء والمرضى البالغين وكان من أهمّها، يقول الدكتور معز، تلك الدراسة التي أجريت عام 2009، وتم نشرها في دورية أبحاث التغذية في 2012، حيث تم اختبار أثر الصيام المتقطع في شهر رمضان على 50 من الذكور والإناث الأصحاء البالغين. وأظهرت نتائجها غياب أي أثر سلبي للصيام في شهر رمضان على أي من المتغيرات المناعية لدى أفراد الدراسة.
وتعززت نتائج تلك الدراسة بدراسة أخرى أجريت على 120 متطوعا من الأصحاء باستخدام عدد من المؤشرات الوظيفية للجهاز المناعي، وخلصت هي الأخرى إلى غياب أي أثر سلبي أو ضار للصيام في شهر رمضان على كفاءة الجهاز المناعي ووظائفه لدى البالغين الأصحاء. وفي دراسة ثالثة مشابهة على 21 من الأصحاء، أظهرت النتائج غياب أي أثر سلبي للصيام في شهر رمضان على المعدِلات أو كريات الدم البيضاء من نوع (Neutrophils) المسؤولة عن حماية الجسم من العدوى خاصة البكتيرية منها.
ونتيجة لتراكم الدراسات العلمية حول أثر الصيام في شهر رمضان على مناعة الجسم، تمت مراجعة 45 دراسة علمية محكمة، حيث أظهرت مراجعة مجموع الدراسات المنشورة غياب أي أثر سلبي للصيام على المؤشرات المناعية لدى الأفراد الأصحاء، وأنه لا يرتبط بزيادة خطر الإصابة بالعدوى أو الاضطرابات المناعية. كما أظهرت الدراسة أن التغيرات المناعية المرافقة للصيام في شهر رمضان هي تغيرات طفيفة مؤقتة، وطارئة تزول بانتهاء شهر الصيام.
كما أوردت المراجعة العلمية غياب أي أثر سلبي للصيام في شهر رمضان على المؤشرات المناعية لدى مرضى الأزمة الصدرية التنفسية، ويتساءل الدكتور: إذا كان الحال هذا مع المرضى، فكيف سيكون مع الأصحاء الذين لا يعانون من مشاكل تنفسية أو مناعية؟.
وفي مراجعة علمية أخرى على أنواع الصيام المختلفة، عدا صيام رمضان، أظهرت نتائج الدراسات التي تمت مراجعتها، وتحليل نتائجها قدرة الصيام المتقطع وغيره من أشكال خفض الطاقة الغذائية المعتادة على تحسين الاستجابة المناعية والحماية من خطر الإصابة بالأمراض ذاتية المناعة، ومنع حالة الشيخوخة وحالة الهَرَم المناعي، كما أظهرت الدراسة قدرة الصيام على قتل الخلايا الهرمة والتالفة والتخلص منها وإنتاج خلايا جديدة فاعلة.
ولعل من أهم الدراسات ذات العلاقة بالصيام والمناعة هي تلك التي أجريت على تأثير الصيام في شهر رمضان على آليات منع التأكسد ومقاومة الالتهاب. فمن المقرر علميا أن زيادة تلك العوامل هو ما يضعف المناعة ويزيد معها خطر الإصابة بالعدوى الجرثومية. وقد قام الفريق البحثي بجمع بيانات 12 دراسة علمية وتحليلها، شملت 311 من الصائمين البالغين وعالجت أثر صيام رمضان على عوامل التأكسد والالتهاب. وأظهرت نتائج التحليل وجود انخفاض ملموس في عددٍ من مؤشرات التأكسد والالتهاب في نهاية شهر رمضان، وهو ما يعزز دور الصيام في تفعيل المناعة وزيادة كفاءتها في مقاومة العدوى، ويدحض الزعم باحتمال تسبب الصيام بزيادة فرص العدوى.
وفي بحثنا الأخير حول أثر الصيام في شهر رمضان على التعبير الجيني لعدد من المورثات الناظمة لعمليات منع التأكسد والالتهاب بالنسبة لقرابة ستين بالغًا من الأصحاء، يقول الدكتور معز أن نتائج الدراسة أظهرت قدرة صيام رمضان على زيادة التعبير الجيني لتلك الجينات وهي
(TFAM, SOD2,and Nrf2) بمستويات عالية بلغت 90.5 بالمائة، 54.1 بالمائة و411.5 بالمائة على التوالي، مقارنة بمستوياتها قبل شهر رمضان. وهذه نتائج بالغة الأهمية في إثبات قدرة الصيام على الوقاية من حالة الكرب التأكسدي والالتهاب المسؤولة عن إضعاف الجهاز المناعي والتقليل من كفاءته في مقاومة العدوى.
وفي دراسة لاختبار أثر صيام رمضان على قدرة الجسم على مقاومة العدوى البكتيرية المُمْرِضة والمسبِّبة لداء السل الرئوي الذي تسببه البكتيريا من نوع (Mycobacterium tuberculosis) على عينات دم 30 متطوعًا من الصائمين. أظهرت الدراسة قدرة الصيام في شهر رمضان على تقليل فرص العدوى بهذا الجرثوم المُمْرِض وزيادة مقاومة الجسم له من خلال زيادة عدد الخلايا البلعمية. كما أثبتت الدراسة قدرة الصيام على زيادة إفراز مركب "الإنترفيرون غاما" القادر على تحفيز آليات المناعة المقاومة للعدوى الجرثومية بنوعيها البكتيرية والفيروسية .
وفي دراسة أخرى شبيهة على نموذج الحيوانات التجريبية، أظهرت نتائج الدراسة قدرة الصيام المتقطع على زيادة كفاءة الجهاز المناعي في مقاومة البكتيريا المُمْرِضة من نوع (Salmonella typhimurium) المسبِّبة لحمى التيفوئيد المشهورة.
ولم تقتصر دراسات الصيام والمناعة على الأصحاء، بل تعدتها إلى دراسة أثر الصيام في شهر رمضان على المرضى المسلمين الذين يعانون من متلازمة نقص المناعة المكتسبة (الإيدز) المصابين بفيروس نقص المناعة (HIV). حيث أظهرت نتائج الدراسة على هؤلاء المرضى من المسلمين غياب أي تأثير سلبي على مناعتهم. ويتساءل الدكتور معز مرة أخرى: فإذا كان الحال بمن أصيب بمرض عضال في الجهاز المناعي، فكيف سيكون الحال مع الأصحاء؟
(يتبع)