"وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خيرٌ لكم"
- 168486
في القرآن الكريم قاعدة إيمانية عظيمة لها الأثر البالغ في حياة الذين وعوها وعقلوها واهتدوا بهداها، هي الإيمان بالقضاء والقدر، والمتمثلة في قوله سبحانه وتعالى في سورة البقرة في سياق الكلام على فرض الجهاد في سبيل الله: "وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خيرٌ لكم وعسى أن تحِبوا شيئا وهو شرٌّ لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون" [الآية: 216].
وهذا الخير المجمل فسره قوله تعالى في سورة النساء في سياق الحديث عن مفارقة النساء: "فإِن كرِهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فِيهِ خيرا كثِيرا". [الآية: 19]
فالإنسان قد يقع له شيء من الأقدار المؤلمة والمصائب الموجعة التي تكرهها نفسه، فربما جزع، أو أصابه الحزن، وظن أن ذلك المقدور هو الضربة القاضية، والفاجعة المهلكة، لآماله وحياته، فإذا بذلك المقدور منحة في ثوب محنة، وعطية في رداء بلية، وفوائد لأقوام ظنوها مصائب، وكم أتى نفع الإنسان من حيث لا يحتسب! والعكس صحيح؛ فكم من إنسان سعى في شيءٍ ظاهره خيرٌ، وأهطع إليه، واستمات في سبيل الحصول عليه، وبذل الغالي والنفيس من أجل الوصول إليه، فإذا بالأمر يأتي على خلاف ما يريد! وهذا هو معنى القاعدة القرآنية التي تضمنتها هذه الآية باختصار.
فتأمل الآيتين الكريمتين الأولى والثانية، تجد الأولى تتحدث عن ألم بدني وجسمي قد يلحق المجاهدين في سبيل الله، كما هو الغالب، والثانية تتحدث عن ألم نفسي يلحق أحد الزوجين بسب فراقه لزوجه!
وإذا بصرت في آية الجهاد وجدتها تتحدث عن عبادة من العبادات، وإذا تمعنت آية النساء وجدتها تتحدث عن علاقات دنيوية. فنحن أمام قاعدة تناولت أحوالا شتى: دينية ودنيوية، بدنية ونفسية، وهي أحوال لا يكاد ينفك عنها أحد في هذه الحياة،
وبالتالي فإن إعمال هذه القاعدة القرآنية "وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خيرٌ لكم وعسى أن تحِبوا شيئا وهو شرٌّ لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون"، من أعظم ما يملأ القلب طمأنينة وراحة، ومن أهم أسباب دفع القلق الذي عصف بحياة كثير من الناس، بسبب موقف من المواقف، أو بسبب قدر من الأقدار المؤلمة، في الظاهر، جرى عليه في يوم من الأيام.
ولو قلبنا قصص القرآن وصفحات التاريخ أو نظرنا في الواقع لوجدنا من ذلك عبرا وشواهد كثيرة، لعلنا نذكر ببعض منها، عسى أن يكون في ذلك سلوة لكل محزون، وعزاء لكل مهموم:
قصة إلقاء أم موسى بولدها في البحر التي يجدر المتأمل فيها، أنه لا أكره لها من وقوع ابنها في يد آل فرعون، ومع ذلك ظهرت عواقبه الحميدة، وآثاره الطيبة في مستقبل الأيام، وصدق ربنا: "والله يعلم وأنتم لا تعلمون".
وقصة يوسف عليه الصلاة والسلام التي نجد أن هذه الآية منطبقة تمام الانطباق على ما جرى له ولأبيه يعقوب عليهما الصلاة والسلام. قصة الغلام الذي قتله الخضر بأمر الله تعالى، فإنه علل قتله بقوله: "وأما الغلام فكان أبواه مؤمِنينِ فخشِينا أن يرهِقهما طغيانا وكفرا، فأردنا أن يبدِلهما ربهما خيرا مِنه زكاة وأقرب رحما" [الكهف: 80، 81].
كم من إنسان لم يقدّر الله تعالى أن يرزقه بالولد، فضاق ذرعا بذلك، واهتم واغتم وصار ضيقا صدره لكن الذي لا ينبغي أن يحدث هو الحزن الدائم، والشعور بالحرمان الذي يقضي على بقية مشاريعه في الحياة.
وليت من حُرم نعمة الولد أن يتأمل هذه الآية لا ليذهب حزنه فحسب، بل ليطمئن قلبه، وينشرح صدره، ويرتاح خاطره، وليته ينظر إلى هذا القدر بعين النعمة، وبصر الرحمة، وأن الله تعالى ربما صرف هذه النعمة رحمة به، وما يدريه.. لعله إذا رزق بولد صار (الولد) سببا في شقاء والديه، وتعاستهما، وتنغيص عيشهما.
وفي السنّة النبوية نجد أم سلمة لما مات زوجها رضي الله عنهما، تقول: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من مسلم تصيبه مصيبة فيقول ما أمره الله "إنا لله وإنا إليه راجعون" اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيرا منها، إلا أخلف الله له خيرا منها". قالت: فلما مات أبوسلمة، قلت: أي المسلمين خير من أبي سلمة؟ أول بيت هاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه؟ ثم إني قلتها، فأخلف الله لي رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه".
هذا الشعور الذي انتاب أم سلمة والذي ينتاب، بلا شك، بعض النساء اللاتي يبتلين بفقد أزواجهن ويتعرض لهن الخطاب ولسان حالهن: ومن خير من أبي فلان؟! فلما فعلت أم سلمة ما أمرها الشرع به من الصبر والاسترجاع وقول المأثور، أعقبها الله خيرا لم تكن تحلم به، ولا يجول في خلدها.
وفي واقعنا قصص كثيرة ، منها ما ذكره الشيخ الطنطاوي، رحمه الله، عن صاحب له: أن رجلا قدم إلى المطار، وكان حريصا على رحلته، فأخذته نومةٌ ترتب عليها أن أقلعت الطائرة، وفيها ركاب كثيرون يزيدون على ثلاث مئة راكب، فلما أفاق وجد الطائرة قد أقلعت وفاتته الرحلة، فضاق صدره، وندم ندما شديدا، ولم تمض دقائق على هذه الحال التي هو عليها حتى أعلن عن سقوط الطائرة، واحتراق كل من على متنها.
وهذا طالب ذهب للدراسة في بلد آخر، وفي أيام الاختبارات ذهب إلى جزيرة مجاورة للمذاكرة والدراسة، وهو سائر في الجزيرة قطف بعض الورود، فرآه رجال الأمن فحبسوه يوما وليلة عقابا لصنيعه مع النبات، وهو يطلب منهم بإلحاح إخراجه ليختبر غدا وهم يرفضون، ثم ماذا حصل؟ لقد غرقت السفينة التي كانت تقل الركاب من الجزيرة ذلك اليوم بمن فيها، ونجا هو بإذن الواحد الأحد!
فعلى المؤمن أن يتوكل على الله، ويبذل ما يستطيع من الأسباب المشروعة، فإذا وقع شيءٌ على خلاف ما يحب فليتذكر قوله تعالى: "وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خيرٌ لكم وعسى أن تحِبوا شيئا وهو شرٌّ لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون"، وليتذكر أن من لطف الله بعباده أنه يقدر عليهم أنواع المصائب، وضروب المحن، والابتلاء بالأمر والنهي الشاق رحمة بهم، ولطفا، وسوقا إلى كمالهم، وكمال نعيمهم. كما أن من ألطاف الله العظيمة أنه لم يجعل حياة الناس وسعادتهم مرتبطة ارتباطا تاما به سبحانه وتعالى وحده، وبقية الأشياء يمكن تعويضها أو تعويض بعضها، وفي هذا المعنى يقول الشاعر:
من كل شيء إذا ضيعته عوضٌ ... وما من الله إن ضيعته عوض