"المساء" تزور ماليزيا وتتجول في شوارع كوالالمبور

الاستثمار في الإنسان حول الجزيرة إلى قبلة سياحية بامتياز

الاستثمار في الإنسان حول الجزيرة إلى قبلة سياحية بامتياز
  • 1720

جاليتنا حاضرة بشارع العرب و"وليد الجزائري" يصنع التميّز

لا أحد زار دولة ماليزيا ولم ينل حقه من الطاقة الإيجابية التي تسري في وجدانه. ولا أظن البتة أن كل من اختار السياحة واكتشاف هذه الجنة الساحرة، لم يفكر ثانية وثالثة في العودة، هكذا همس لي أحد الأصدقاء في مطار هواري بومدين بالعاصمة، ونحن في قاعة الانتظار لامتطاء الطائرة المتجهة إلى مطار الدوحة، ومنه إلى العاصمة الماليزية كوالالمبور، فزادني اشتياقا وأنا الذي لا يعرف عن هذه الدولة المسلمة التي انطلق اقتصادها كالصاروخ، إلا من خلال المكتوب ووسائط الإعلام. فكانت الرحلة حقا متعة واكتشافا لمخبوء سياحي وراحة نفسية وتفتحا على مختلف الجنسيات التي تحج إلى المكان على مدار السنة، وتحقِّق الحلم الماليزي الذي خطط له الزعيم محمد ماهتير، الرجل الأسطورة.

رأس المال البشري وراء نهضة ماليزيا

لعل الكثير خاصة السياسيين والاقتصاديين والناس عموما،  يتساءلون عن تاريخ هذا البلد الذي هو عبارة عن شبه جزيرة ذات مناخ استوائي، وغابات كثيفة، تتعدى مساحته 320 ألف كيلومتر مربع، وسكان لا يتجاوز عددهم اليوم 28 مليون نسمة، حيث يذكر التاريخ أن الماليزيين كانوا يعيشون ويعملون فى زراعة المطاط والموز والأناناس وصيد الأسماك، وكان متوسط دخل الفرد أقل من ألف دولار سنويا، وكانت الصراعات الدينية بين أتباع 18 ديانة، ليقيض الله لهم الدكتور محمد ماهتير الذي يعود له الفضل الأكبر في نهضة ماليزيا الحديثة، الذي كان في مرحلة الدراسة يبيع فطائر الموز بالشارع، وكان سقف حلمه عاليا، ودخل كلية الطب في  سنغافورة المجاورة وأصبح رئيسا لاتحاد الطلاب المسلمين بالجامعة، قبل تخرجه عام 1953، ويعمل طبيبا في الحكومة الإنجليزية المحتلة لبلاده حتى استقلت ماليزيا سنة 1957، حيث فتح عيادته الخاصة كجراح وكان يخصص نصف وقته للكشف المجاني لفائدة الفقراء. فاز بعضوية مجلس الشعب عام 1964، تفرغ بعدها لتأليف كتاب عن مستقبل ماليزيا الاقتصادي سنة 1970، وأعيد انتخابه سيناتورا عام 1974، ثم وزيرا للتعليم في 1975، بعدها مساعدا لرئيس الوزراء في 1978، ورئيسا للوزراء عام 1981، لتبدأ النهضة الشاملة لماليزيا التي كانت مبلغ حلمه.

سألت أحد الزملاء الصحفيين الذي رافقنا في الرحلة وتعوّد على الحج إلى هذا البلد، عن سر نجاح هذه الشخصية الفذة، فذكر لي أن الرجل حدد في البداية الأولويات والأهداف والنتائج الواجب الوصول إليها خلال 10 سنوات، ثم بعد 20 سنة، أي إلى غاية 2020. وثانيا، قرر أن يكون التعليم والبحث العلمي الأولوية الأولى على رأس الأجندة، إذ خصص أكبر قسم في ميزانية الدولة ليضخ في قطاعي التعليم والتكوين المهني وتعليم الإنجليزية، ودعم البحوث العلمية. كما أرسل عشرات آلاف الطلبة في بعثات للدراسة في أفضل الجامعات الأجنبية. وفي مجال التسيير كشف للشعب بكل شفافية عن خطته واستراتيجيته، التي بدأها بقطاع الزراعة، فتم غرس مليون شتلة نخيل الزيت في أول عامين، لتصبح ماليزيا أول دول العالم في إنتاج وتصدير زيت النخيل. أما في مجال السياحة، فقرر أن يكون المستهدف في العشر سنوات الأولى؛ تحقيق 20 مليار دولار بدلا من 900 مليون دولار في العام، لتصل الآن إلى نحو 33 مليار دولار سنويا. وفي الجانب الصناعي، تم تحقيق طفرة نمو سنة 1996 تجاوزت 46 بالمائة عن العام الذي سبقها،  بفضل المنظومة الشاملة والقفزة الهائلة في الأجهزة الكهربائية، والحاسبات الإلكترونية. وفي القطاع المالي، فتح المهاتير الباب على مصراعيه أمام الاستثمارات المحلية والأجنبية بضوابط شفافة لبناء أعلى برجين توأم في العالم،  65 مركزا تجاريا في العاصمة كوالالمبور وحدها، وأنشأ البورصة التي وصل حجم تعاملها اليومي إلى ألفي مليون دولار يوميا. كما أنشأ أكبر جامعة إسلامية على وجه الأرض، أصبحت ضمن أهم خمسمائة جامعة في العالم يقف أمامها شباب الخليج بالطوابير. كما أنشأ عاصمة إدارية جديدة‏ بجانب العاصمة التجارية كوالالمبور، لكنهم خططوا لأن تستوعب 7 ملايين عام 2020، لهذا بنوا مطارين وعشرات الطرق السريعة تسهيلا للسائحين والمقيمين والمستثمرين الذين أتوا من الصين والهند والخليج ومن كل بقاع الأرض، يبنون آلاف الفنادق بداية من الخمس نجوم.

وفرة الهياكل وحسن خدمات مغناطيس الاستثمار السياحي

دخلت ومرافقي المصري محمد علاء أحد الأبراج، وراح يحدثني عن زياراته المتكررة لهذا البلد، بعدما قلت له بأنني أزوره لأول مرة، وأكد لي أنه وجد في ماليزيا كل وسائل الراحة والاستجمام والأمان، قائلا: "كلما تعبت أعصابي وأحسست بضغط العمل والمشاغل والالتزامات... لذت بالفرار إلى كوالالمبور"، رغم أن محدثي وهو مستثمر في الصين منذ سنوات، يجد نفس البيئة الآسيوية في بلد العملاق النائم، وشرح لي بأن طيبة الشعب الماليزي، وتفتحه على العالم وكل الأفكار والديانات والحضارات، جعله منطقة ساحرة مدرة للدخل القومي، وجالبة للعملة الصعبة والاستثمار الأجنبي.

لم تنهض دولة ماليزيا سياحيا واقتصاديا من العدم، يقول محمد علاء الدين، صادفته بفندق "بريسكوت سنترال" بالعاصمة كوالالمبور، ورافقني، مترجلين عبر شارع "جالان تون سامبتان" نحو مركز التجارة والأعمال "نُوسنترال" الذي يقع على مقربة من فندق "بريسكوت" الذي مكثت به أربعة أيام، وطفنا في جنبات "المول"، صعدنا السلالم الميكانيكية ودّنا الفضول إلى معرفة ما يباع في هذه الأسواق الضخمة والراقية، انتعاش تجاري، وسيولة حركة التنقل لا تعيقها الحشود الكبيرة التي تتدفق على هذا المرفق، ولا يشعر الزائر بمرور الوقت، إلا عندما تزقزق عصافير بطنه معلنة عن موعد تناول الوجبة، فحسن الاستقبال في المتاجر يجعلك تدخل المحل طوعا لا كرها، وتحس بدفء العاملين والفتهم، كأنهم وخدمتهم لك، حتى ولو لم تشتر منهم... "إنها الحياة السلسة والتناغم الاجتماعي، والمرونة" قال مرافقي، مضيفا أن هذه الطباع الحميدة، والأخلاق التجارية والهدوء والصبر والامتنان هي المغناطيس الذي يجذب الزوار، مهما كانت أمزجتهم ومستوياتهم العلمية والاجتماعية.

يلاحظ من خلال وفرة الهياكل وصلابة البنية التحتية، أن ماليزيا فتحت أبواب الاستثمار في هياكل الاستقبال من الفنادق بمختلف الأصناف ولكل الفئات، كي يجد السائح كل الخيارات في خدمات الإيواء والراحة والاستجمام، وحتى التسوق، فمعظم الفنادق الضخمة مصممة بطريقة مدروسة، توجد بأسفلها مراكز تجارية أو ما يسمى بـ«المول"، وهي فضاءات تسوق ضخمة وفخمة تتربع على مساحات كبيرة وتتكون من عدة طوابق، بها مختلف السلع وخدمات الإطعام والترفيه، موصولة بمختلف وسائل النقل من قطارات وحافلات وسيارات أجرة، وحتى دراجات نارية وهوائية، لمن يريد أن يتحرر ويتنقل بمفرده إلى حيث يشاء، ومرد هذه النظرة الإيجابية إلى فلسفة التسيير السياسي والاقتصادي الذي رفع بلدا مثل ماليزيا كان في ذيل الترتيب، ليتحول في سنوات قليلة إلى دولة جاذبة لرؤوس الأموال ومصدرة للنجاح الاجتماعي والاقتصادي، فالمستثمرون يجدون كل الظروف المهيأة للنشاط والإبداع، ويطبقون أحدث وأذكى طرق التسويق وإزالة كل الحواجز، اختصارا للوقت وتخفيفا للأعباء.

كوالالمبور مغناطيس سياحي لا يقاوم ..

عرفت دولة ماليزيا كيف تكون منطقة جذب سياحي بامتياز ومغناطيس جلب العملة الصعبة، يقول سائق سيارة أجرة من أصل ياباني، استوطن منذ عقود في هذا البلد المضياف، وراح يحدثني عن مؤهلات البلد، قائلا بأن ماليزيا اغتنمت كل وسائل الترويج والاتصال والتواصل مع العالم الخارجي، وفتحت أبواب الاستثمار السياحي، مع استغلال طبيعة الأرض والمناخ، حيث قامت بتدشين الكثير من المواقع عبر الشبكة العنكبوتية التي تدعو إلى السياحة فيها، وبدأت بتسويق الفكرة في العالم العربي التي تشترك مع دوله في تبني الدين الإسلامي، وقد انتبه العرب إلى هذه الدعوة، فوجدوا في ماليزيا الهدف المرجو من سياحتهم، مع مشجعات للسفر هناك منها رخص السياحة فيها إذا ما قورنت بأوروبا وأمريكا، بالإضافة إلى كونها بلد إسلامي متطور.

وعن العاصمة، قال محدثي الذي لا يحسن إلا الإنجليزية والماليزية، أن كوالالمبور التي يقطنها الآن أقل من مليوني  نسمة، تعد من أشهر المدن الماليزية والتي يطلق عليها مدينة الحدائق، وتتميز بأنها من أكثر المدن الماليزية تطورا وجمالا، تزدان بالحدائق والأنهار والجبال، بالإضافة إلى أنها تضم العديد من المباني التاريخية والثقافية، وناطحات السحاب التي تفنن المهندسون في تصميمها وتشييدها.

وراح محدثي يسألني إن كنت أود الذهاب إلى أماكن أخرى بهذه المدينة الجميلة أكثر استقطابا للزوار، فقلت له بأن وقتي محدد بمجموعة من السياح يذهبون بطريقة منظمة، فنصحني بزيارة أهم المعالم السياحية الشهيرة، وهما برجا شركة البترول الماليزية "بيتروناس"، ويقعان في وسط المنطقة التجارية بالمدينة، وهما أعلى برجين في العالم، يبلغ ارتفاع كل واحد منهما 452 مترا موزعين بين 88 طابقا، ويربط بين البرجين جسر معلق بين الطابقين 41 و42، قام بتشييد هذا البناء الرائع المهندس المعماري "سيزر بيلي"، وتضم هذه المنطقة عددا من الحدائق والنافورات ومراكز التسويق والمطاعم ودور سينمائية ومسارح للعروض الفنية والثقافية.

راح "الطاكسيور" يرغبني أكثر قائلا: اغتنم فرصة وجودك بالعاصمة لتزور "برج كوالالمبور" فهو واحد من أعلى الأبراج في العالم، يعلو في السماء بنحو 421 مترا، وتضم قمته مطعما متحركا ومحلات لبيع الهدايا التذكارية، ومسرحا في الطابق الأرضي يقدم مختلف العروض الفنية، بالإضافة إلى العديد من المعالم والأماكن السياحية الأخرى التي تضمها كوالالمبور، مثل حديقة الفراشات، وحديقة الطيور التي تعد من أكبر الحدائق في جنوب شرق آسيا، تضم معظم أنواع الطيور الموجودة في العالم، وحديقة أخرى رائعة هي حديقة "بحيرة كوالالمبور" التي تضم بحيرة اصطناعية ومساحات خضراء شاسعة ومختلف أنواع النباتات والزهور، فضلا عن المتحف القومي، والعديد من الأسواق والمدينة الصينية، بالإضافة إلى المصنع الملكي الذي يقوم بصناعة الهدايا التذكارية من الفضة الخالصة، وقصر الخيول الذهبية، وغيرها العديد من المعالم والأماكن في هذه المدينة النابضة بالحياة.

عرض عليّ محدثي أيضا أن أهتف له يوما ما عندما أعود إلى ماليزيا، كي يأخذني إلى مدينة مالاقا التي تأتي من حيث القيمة السياحية والاقتصادية بعد مدينة كوالالمبور، فهي مدينة أثرية تاريخية تعود إلى القرن الخامس عشر الميلادي، وتعد من أبرز المدن التاريخية في ماليزيا، لأنها تجمع عددا كبيرا من الحضارات، ويوجد بها العديد من المعالم التاريخية والأثرية التي تستهوي العديد من السياح،  بالإضافة إلى الشواطئ الرملية الرائعة التي يعد من أشهرها شاطئ "تانجونج بيدارا" الذي يكتظ بالزائرين، بالإضافة للمتحف الثقافي، وعروض الصوت والضوء في ميدان "بادانج باهلاوان، وحصن قاموزا، والقلعة الهولندية، وعدد من المساجد الأثرية، مثل مسجد هولو ومسجد تراتكويرة، وغيرها العديد من الأماكن الأثرية الرائعة.

كما يوجد بماليزيا العديد من المدن الجميلة الأخرى التي تضم المعالم الحديثة بجوار المعالم الأثرية القديمة، ومنها مدينة جورج تاون التي تعد عامل جذب للعديد من السياح، ومدينة شاه عالم عاصمة ولاية سلانجور التي تشتهر بمسجد سلطان صلاح الدين عبد العزيز شاه، بقبته الزرقاء، وهي أكبر قبة في العالم، وتضم المدينة العديد من الحدائق والبحيرات.

شعب مضياف.. بدون حدود!! 

لا تشعر وأنت تدخل الأراضي الماليزية أنك غريب الديار، ولا تجد البتة مظاهر التعصب والتمييز والانطوائية، فمنذ أن تطأ قدماك العاصمة، تجد الألفة ورحابة الصدر، كأن هذا الشعب خُلِق مضيافا، حسبما وصفه أحد الأصدقاء الذين كانوا معي في الرحلة ونحن في بهو مطار كوالالمبور، قائلا: "إنك تخجل من ظرافة طباعهم ودماثة أخلاقهم، وحرارة استقبالهم لك...يخدمونك، يوجهونك، ينصحونك، ويرغّبونك في العودة إليهم.."، وأكد لي "خالد.ب" وهو ابن مدينة عين الدفلى، معتاد على زيارة ماليزيا منذ سنوات، أنه صار مدمنا على الحج إلى هذه البقعة البعيدة من المعمورة، وأنه لا يفوّت أية  فرصة للاستمتاع والخروج من البيئة المغلقة وروتين العمل وضجر الحياة، الذي يجعل المرء ينسى حقه من السفر والراحة والاستجمام، وأضاف صديقه أحمد الذي تعوّد على زيارة هذا البلد السياحي، أنه يفضل دفع تكاليف أكثر، من أجل الترحال إلى هذه البقعة الساحرة المغروسة وسط البحر الذي يجد فيه الهدوء والاحترام والأمان، ويجد كل جنسيات العالم حاضرة في هذه الجزيرة الساحرة.

دقائق داخل المعبد الهندي

شدني الفضول الصحفي وأنا أمر بأحد المعابد الهندية، الذي زركشت بنايته بمختلف الألوان وتماثيل الآلهة التي يعبدونها، المعمار يشدك إليه وأنت تقف أمام هذا المعبد، كان "المريدون" يترددون على المعبد من كلا الجنسين، يتوضأون وينزعون نعالهم ويدخلون إلى ردهة المعبد، طلبتُ من أحد الحراس أمام المعبد بأن يلتقط لي صورة ففعل، وسألته إن كان ممكنا أخذ صور من الداخل، فأشار إلي بالرفض، ولم أجد بدا من أن أخلع حذائي وأدخل مع الداخلين، لأكتشف جانبا من هذه الديانة التي لم أسمع عنها إلا من خلال الكتب والأفلام وغيرها، لم أجد بالداخل إلا أضرحة وتماثيل وبعض المتعبدين، كان راهبان منهم يجلسان متقابلين بالقرب من التمثال الكبير، ويتلوان بالتناوب عبارات من صحائف في أيديهم، وحولهم زوار ينثرون الزهور على التماثيل الموزعة في كافة أركان المعبد.

كنت أظن أن يأتي نحوي أحدهم ليسألني عن سبب دخولي، فلم أجد ذلك، وعرفت أن هذا المكان يدخله السياح بشكل عادي، فرُحت أطيل النظر في التصاميم المعمارية التي تفنن أصحابها في تشييدها، وما أبدعته أيدي الفنانين في نحت تماثيل يتقرب إليها عُبّادها زلفى بطقوس وحركات ونثر للزهور، وعقاقير وألوان يرسمونها على الجبين، يشترونها بالقرب من مدخل المعبد.

  الحركة دؤوبة و«الوقت من ذهب"..

الحركة الدؤوبة سمة المدن الماليزية، على غرار مثيلاتها في الدول المتقدمة، فالناس تمشي وتتنقل وتتسوق وتسهر، بل وتقضى حاجياتها كما لو كان ذلك في عز النهار، "الناس هنا يا أخي يستوي لديهم الليل والنهار" قال أحد الشبان الجزائريين الذي وجدناه بسوق العرب في كوالالمبور، ويروي لنا أنه لم يتعود على هذا "الريتم" إلا بصعوبة، فنور شمس النهار تعانق أنوار مصابيح المدينة المضيئة ليلا، وتضمن دوام الحركة والنشاط والعمل والإنتاج والتواصل، ولا مكان لهاجس الخوف من نفاذ السلع وغياب الخدمات ليلا، كما هو الحال في عاصمتنا، الزائر والمقيم هنا ـ يقول محدثي - "لا عذر له، لأن وسائل الحياة والحركة والعمل والإبداع متوفرة، والناس يبرمجون حياتهم، ولا يضيعون الوقت، فهم يطبقون المثال الإنجليزي القائل "الوقت من ذهب"، ولاحظنا ترجمة ذلك في الواقع، فكوالالمبور ومدنها الأخرى لا تنام، حتى ولو نامت معظم الخلائق.

من بيتك اجلِبْ أية سلعة أو خدمات

ما شد انتباهي وأنا أزور ماليزيا لأول مرة، أن الخدمات بكل أنواعها متطورة وعلى درجة كبيرة من الجودة والرفاهية، فالسلع والمحلات ترحل إلى الزبون حيثما حل وارتحل، يكفي أن تبحث على متعاملين في هذا المجال، يخدمونك ويأخذون عمولة مقابل ذلك، ويكفونك عناء التنقل وهاجس البحث، وتضييع الوقت، سألت أحد المصريين المولعين بزيارة ماليزيا، التقيته بردهة مكتب الاستقبال لفندق "بريسكوت" عن هذه الطرق الحديثة في التسويق الحديث، فرد عليّ بأن ذلك تطور إلى درجة أنه يمكنك تصوير الرقم التسلسلي للسعلة "كودبار" وطلبها من المتعاملين الذين يوفرون خدمة إيصالها إلى حيثما شئت، والهدف من ذلك هو تخليص الناس من مشاق التنقل نحو الأسواق والمحلات، والتزاحم في الشوارع والبازارات، وتضييع الأوقات، وأن التفكير في هذا النمط من التجارة جاء بنتائج جيدة، انعكست على السيولة المرورية، وساهمت في الترويج السياحي والنمو الاقتصادي، وأزالت العديد من العراقيل البيروقراطية والتعقيدات اللوجستية.

وراح محدثي يشرح لي منافع تسهيل الخدمات بالقول؛ إن ذلك ينعكس على تصرفات وسلوكات الناس، ويوفر لهم الراحة ويشعرهم بالسعادة، ويزيد في تركيزهم ومردود العمل والنشاط والإبداع، ويتجسد في التعامل مع الغير، هكذا فك محدثي شفرة هذه الفلسفة الحياتية البراغماتية القابلة للنمو والاستنساخ.

شارع العرب.. تسوّق، مطاعم وطرب

ارتياد شارع العرب بوسط العاصمة كوالالمبور، له نكهة خاصة، يجعلك تشعر بالأنس والحميمية، قال الطالب الجزائري أحمد سعيدي من ولاية أم البواقي، التقيته في هذا المكان الذي كان يعج بالحركة في عز الليل، وكانت بكل شارع تقريبا فرقة موسيقية تعزف الألحان ومطربون يستقطبون زوار المكان، بحثت عن بعض المهاجرين الجزائريين لعلي أفتك بعض المعلومات عن جاليتنا وطبيعة نشاطها، فدلني على بعض الشبان من أصحاب المهن الحرة كالحلاقة والمطاعم الشعبية، وكان كلما مر على محل لأحد الجزائريين، أشار عليّ بالدخول للتعرف عليهم، ففضلت أن يكون دليلي في شارع العرب، الذي يكثر بها النشاط التجاري والتسوق، وحفلات الطرب، ويختصر علي الجهد والوقت، لأن الرحلة منظمة وتستلزم وقتا أقصر في هذا المكان الذي يعج بالحركة. كان مرافقي أحمد الطالب العامل بأحد المطاعم، يمدني بمعلومات عن الحلاقين الجزائريين خاصة المنحدرين من ولاية جيجل، حتى أن صديقي والزميل السابق في يومية "المساء" سلام الصغير الذي تواصلت معه وأنا في كوالالمبور، راح ينصحني قائلا: "أنْعِمْ بها من رحلة وزرْ الجامعة العالمية وحديقة الفراشات وعرج على بوتراجتيا وتسكعْ في شارع العرب، يوجد هناك "حفاف" جيجلي، إذا أردت حلق شعرك أو ذقنك، وعندما تتعب من السير جرّبْ تدليك رجليك بالسمك .. بصحتك صاحبي".

جاليتنا قليلة و«وليد الجزائرييصنع التميّز

راح أحمد الشاب الطموح يسرد عليّ جانبا من مغامرته قائلا: "سجلت منذ وصولي في دورة تعليمية للغة الإنجليزية بإحدى المدارس، لكن الجانب المادي الصعب الذي واجهته فرض عليّ البحث عن عمل لتحصيل ما أسدّ به مستحقات التكوين والإيواء، منذ أزيد من ستة أشهر في مطعم أحد الجزائريين، أحمد قطع البحار والمحيطات واختار المغامرة، عندما فشل في نيل شهادة البكالوريا، واقتنع بالهجرة إلى دولة لا بالمكوث والبحث عن عمل، بل اختار الهجرة إلى هذا البلد البعيد، فوجد أن المتيسّر له رفقة صديقه خالد بوستة ابن منطقته الذي يسرد لي في عجالة ذكر لنا أنه لا يوجد من الجزائريين المستثمرين في هذه الدولة الرائدة إلا فئة قليلة، قال مرافقي أحمد، الذي دلني على مكتب وليد غماري المنحدر من الغرب الجزائري، والمعروف في ماليزيا بـ«وليد الجزائري" صاحب وكالة السياحة والأسفار، الذي زارته "المساء" وروى لنا جانبا من مسيرته الاستثمارية، حيث كان منذ 2005 ينشط في مجال التجارة في الإمارات العربية المتحدة، ليسافر إلى ماليزيا ويستقر بالعاصمة، ويغير نشاطه إلى قطاع الخدمات، فانطلق بوكالة سياحية، لقيت منافسة شرسة من طرف الوكالات العربية الموجودة بماليزيا، حسب وليد، الذي ذكر لنا أنه استقدم عائلته لهذه الدولة، وقام بتوسيع نشاطه، حيث فتح أول حمام مزود بـ«صونا" وقاعة حلاقة للنساء، ثم مرقدا، عادة ما يقصده العرب، خاصة الجزائريون الذين يجدون ضالتهم في ابن البلد الذي تحوّل ـ كما ذكر لنا- إلى نقطة لقاء الجالية الجزائرية التي تحل بماليزيا، وأنه كلما وقع أحدهم في مشكل أو ضائقة، أو احتاج إلى مساعدة ومعلومات قصد مكتب "وليد الجزائري"، فقلت له يصح إذن أن نسميك "قنصل الجزائر في كوالالمبور" فضحك وواصل قائلا: "الشبان الثلاثة الذين كانوا قبلكم عندي في المكتب" كانوا يبحثون عن العمل، ولا يعرفون أجواء التعامل هنا"، ونسبة المستثمرين الجزائريين في ماليزيا تكاد تكون منعدمة، فمعظم المتعاملين الاقتصاديين الجزائريين يستوردون المنتجات الماليزية، خاصة الأثاث الخشبي الماليزي المتميز.