معلم شامخ يأبى الزوال

عين الفوارة: شربة ماء تروي .. وتروي آلام التاريخ

عين الفوارة: شربة ماء تروي .. وتروي آلام التاريخ
  • 7618
يعد تمثال عين الفوارة الذي يتوسط ساحة الاستقلال بقلب مدينة سطيف، معلما من المعالم الأكثر رمزية لكنه يوجد في صورة سيئة ولأنه ضحية شهرته ظل تمثال عين الفوارة يتعرض باستمرار وأكثر فأكثر إلى الأقدام التي تدوسه والأيدي التي تعنفه والأشخاص الذين يزاحمونه بالمئات بل بالآلاف بحسن نية و لا لشيء إلا لرغبتهم في التقاط صورة بجانبه وهم لا يعون الأذى الذي يلحقونه بهذا النصب و ربما لا يعلمون أيضا أنه منذ عشريتين من الزمن - يوم 22 أبريل 1997- قد تم تدميره بقنبلة تقليدية قبل أن يعاد من جديد بفضل إرادة مجموعة من الرجال.
فمن يشرب ماء عين الفوارة سيعود يوما ما إلى مدينة سطيف!. بهذه الثقة القوية أطلق السطايفيون يوما هذه المقولة على كل من يزورها رغم أنها لا تحمل في طياتها ما يثبت ذلك عدا إذا كان الأمر يتعلق بـ«إيحاء ذاتي جماعي" رسخه الزمن ضمن المعتقدات الشعبية قبل أن تصبح من المسلمات المتداولة عبر الأجيال المتعاقبة حتى أصبحت أمرا مألوفا ليظل هذا المعلم الرخامي محل فخر واعتزاز تعلق بحبه سكان سطيف. والظروف التي كانت وراء إقامة تمثال عين الفوارة بعاصمة الهضاب العليا منذ قرابة قرن من الزمن، لم تكن لها أية علاقة بأهالي المدينة فقد كانت البلدية التي كان يسيرها في ذلك الوقت شارل ألبرت أوبري، قد قررت ببساطة في العام 1894 تعويض الحنفية التي كانت مهددة بالانهيار بأخرى في شكل تمثال وذلك بغرض إضفاء رونق عمراني.
ولقد تكفل آنذاك رئيس البلدية بنفسه بهذه المهمة التي كان الغرض منها تزيين وسط المدينة لجعلها تظهر بحلة أنيقة عندما يحل بها المعمّّرون وكذا لكي يتنزه الجنود الفرنسيون حولها. ولأجل ذلك، قام أوبري بزيارة إلى باريس عام 1896 وحسب معلومات لا زال يحتفظ بها في سطيف فقد طلب "مقابلة مدير الفنون الجميلة لكي يلتمس من سيادته أن يهديه تمثالا يزين به حنفية الساحة الوطنية". وتم تكليف النحات الفرنسي سانت فيدال بذلك. وبعد مضي ثلاثة أشهر فقط من زيارة أوبري لباريس، أرسل له مدير الفنون الجميلة برقية مفادها: "إن السيد سانت فيدال على وشك انتهائه من تصميم التحفة التي سيعرضها في الصالون المقبل، وفور اختتام فعالياته (أي في مطلع شهر جويلية) سيتم إرسالها إلى مدينة سطيف". وتم بالفعل ذلك في يوليو 1898 بعدما تربعت على عرش المعرض العالمي لباريس. ولدى وصوله إلى ميناء سكيكدة، تم نقله على متن عربة إلى "الساحة الوطنية" في غضون أسبوعين.
إن موضع المرأة العارية التي تقبع على قاعدتها الحجرية منذ ما يزيد عن قرن من الزمن بشكل يجعل الناظر يظن أنها تمعن النظر إلى بعيد بل، إنها الشاهد على الصامت غير المكترث بالأفراح بكل بهجتها أوالمآسي بكل آلامها وجراحها. كل هذه العوامل هي التي شكلت وجود مدينتها. لقد كانت هنا حاضرة في الرواق الأول لمشهد اغتيال الشاب الكشاف بوزيد سعال برصاص محافظ الشرطة أوليفيري في الثامن ماي 1945. كما كانت حاضرة أيضا في الخامس من جويلية 1962 لما دوت حولها صيحات الاستقلال.  
لقد كانت هنا أيضا بالفعل للأسف ذات صباح من شهر أفريل 1997 عندما اقترفت أيادي إرهابية اعتداءها الشنيع لوضع حد للجمال الفاتن وتدمير الأسطورة. فقد أحاطت بالمدينة أجواء الحسرة التي عجزت عن النطق في ذلك اليوم و لم تسمع وقتها إلا آهات الألم والغضب وهو ما عبّر عن ارتباط وتعلق سكان سطيف بعين الفوارة وكذلك كان الحال حين تم إرجاع التمثال إلى مكانه بعد 48 ساعة وتم تدشينه من جديد وسط الأهازيج وأصوات الزغاريد والأغاني والرقصات وكذا دموع الفرحة بعد ذلك الاعتداء المقيت.
ولقد أضحى الآن التمثال ضعيفا متضررا من آثار جروح الزمن غير أنه لا زال يتبختر بكل حياء (لكن بلا جدوى) بتستر بين أشجار البلاطان، حياء من المسجد العتيق الذي يجاوره. ومع هذا فإن هذا النصب لا يزال يستقبل الحنة التي تضعها كل عجوز كفأل خير وعشرات المصورين الذين يتزاحمون حوله.  
فالأشخاص الذين يمرون بالتمثال أوالزوار المميزين يعبرون عن رغبتهم في العودة إلى سطيف لشرب ماء عين الفوارة. يفعلون هذا على سبيل التسلية أوكتبرئة للذمة و ربما على سبيل التحدي أو بكل بساطة عن قناعة.. إنهم كثيرون ممن لم يتوانوا لتخليد هذا النوع من التقاليد الذي هو بدون شك أجمل ما يكون من البراءة وأطهر حتى من ماء عين الفوارة نفسه.
منذ 18 عاما، ارتفعت أصوات من هنا وهناك بسطيف لوصف آلام السطايفيين عندما اكتشفوا أن هذا التمثال قد تحول إلى أجزاء متناثرة بين أشجار البلاطان. أصوات أخرى عديدة وأكثر صخبا اشتدت مبدية سخطها قبل وصول السلطات المحلية التي أحاط بها رجال غيورين على تراث المدينة أزالوا ما بالتمثال من آثار الاعتداء وأعادوه إلى مكانه. ولم يمنع هذا من سماع بعض الهتافات مثل "هذا حرام التمثال لامرأة عارية إنها إرث الاستعمار".
وأكد أحد السطايفيين الأصليين، فيصل وارث المهندس المعماري والكاتب بقوله "المشكل أنه لا أحد من العلماء مثل البشير الإبراهيمي الذي كان يأتي إلى سطيف باستمرار و لا أحد من قادة الثورة التحريرية اشتكوا من تواجد هذا التمثال الذي يتواجد رغم ذلك بمحاذاة المسجد العتيق قبل أن يواصل: "امرأة عارية   لم أشعر أبدا بالخجل عند مروري بجانب عين الفوارة مع أمي أو مع أعمامي". فإعادة إحياء عين الفوارة كان بمثابة قول "لا" للمفسدين ولا للمدمرين مهما كانوا من الذين أغرقوا المدينة في الدم أيام العشرية السوداء. وإعادة وضع التمثال في مكانه هو إثبات حضور سلطات الدولة" كما صرح به وبفخر مسؤول سام صباح إعادة تدشينه وسط زغاريد النسوة.
في صبيحة ذلك اليوم كان إطار من البلدية وعضو سابق بالمجلس التنفيذي وكان أصغر شخص محكوم عليه بالإعدام إبّان الثورة التحريرية، المدعو حسان سوالمي الحرفي المسؤول عن إعادة التمثال إلى وضعه قد فوجئ بما حل بالنصب إلى درجة أنه بكى بحرقة. ولكنه استعاد بهجته و ربما أكثر مما كان يتوقع عندما رأى عمال البلدية يجمعون شظايا التمثال حينها أقسم على إعادة تصليح التمثال وإعادته إلى مكانه في ظرف يومين فقط وكان عند وعده. متأثرة بالتصرفات الشنيعة، قامت سلطات المدينة بوضع سلسلة من كاميرات المراقبة حول الساحة، حيث يقف التمثال شامخا في وسطها رغم أنه فقد نوعا ما بريقه وارتسمت عليه آثار العدوان عليه، لكنه مايزال منتصبا يقاوم ويتصدى لكل المؤامرات وهو الأمر الذي يدعونا لأن نقول إن الملايين من الزوار سيشربون مرات ومرات من ماء عين الفوارة،  وسيعودون إلى مدينة سطيف.