حملة جني الزيتون بجبال بومرداس

متعة في أحضان الطبيعة

متعة في أحضان الطبيعة
حملة جني الزيتون بجبال بومرداس حنان. س
  • القراءات: 1371
❊❊ حنان. س ❊❊ ❊❊ حنان. س ❊❊

عادت مئات العائلات إلى أراضيها بجبال بومرداس، بعد استتباب الأمن وتوفر عوامل الحياة اليومية من كهرباء وغاز وماء وفتح المسالك، في إطار الجهود المبذولة في سبيل تثبيت السكان في قراهم "وهو هدف ذو بعد استراتيجي"، من أجل خدمة الأرض والحفاظ على الموروث المحلي، سواء المتعلق بالفلاحة العائلية أو الحرف اليدوية، وعلى رأسها أشجار الزيتون المترامية بالجبال.. إذ في مثل هذه الفترة من كل سنة، تنطلق عملية جني الزيتون التي وإن كانت شاقة، فهي شيقة عند أهل المنطقة، وقد شاركت "المساء" العائلات التي اختارت البقاء في جبال عمال وبني عمران وسوق الأحد، فكانت متعة ممزوجة بشغف العيش في أحضان الطبيعة.

 

تعيش العديد من العائلات في القرى والمداشر المترامية بجبال ولاية بومرداس، على وقع جني الزيتون، في موعد سنوي يتجدد في مثل هذه الفترة من السنة. حيث يجتمع أفراد العائلة الواحدة أو حتى بعض الجيران من قرية واحدة أو قرى أخرى متجاورة، للتوجه نحو أشجار الزيتون المترامية بالجبال، في صورة تعكس أواصر الترابط بين الأجيال، ورافقت "المساء" مرة أخرى، البعض في هذه الرحلة المتعبة والمكللة بعشرات الدلاء من زيت مباركة، قد لا يخلو بيت منها،  لفوائدها العظيمة.

لتر من الزيت بـ 800 دج

خلافا لما تعودنا عليه في روبوتاجات سابقة، فإن البداية هذه المرة كانت من معصرة حديثة بقرية بوعيدل، التي كانت يومها على موعد مع عائلات بأكملها،  قصدت المعصرة من أجل حجز مكان لعصر الغلة من زيتون هذا الموسم الجديد. تحدثنا إلى صاحبها عبد الكريم حيدوس، الذي أكد على تناقص الغلة من الزيتون هذا الموسم، مما سبب ـ حسبه ـ تراجع تحصيل الزيت، بالتالي ارتفاع سعر اللتر الواحد إلى 800 دينار، وقال إن الكيلوغرام الواحد من الزيتون يباع في أسواق التجزئة بحوالي 120 دج، في الوقت الذي عرف الموسم الماضي تسجيل غلة جيدة، حيث عرض الزيتون بسعر 80 دج. كما أوضح أن كل قنطار زيتون ينتج منه قرابة 28 لترا من الزيت إذا كان الزيتون من النوعية الجيدة. وقد ربط سبب ارتفاع الأسعار بعدم الاعتناء بأشجار الزيتون التي تترك في الغالب دون تقليم، مما يؤدي إلى تناقص كمية إنتاج الزيتون.

في هذا السياق، حدثّنا العم علي من قرية بوعيدل، الذي قصد المعصرة ببعض أكياس الزيتون، فقال إن محصوله هذا الموسم تراجع كثيرا، ولم يجن سوى قنطارين من الزيتون، وينتظر تحصيل قرابة 15 لترا، اعتبرها "خيرا وبركة على الأقل نستهلكها كوننا من محبي زيت الزيتون كثيرا"، وأضاف أن موسم 2017 سجل فيه محصولا جيدا سمح له بتحصيل قرابة 100 لتر، وقال إن "الزيتون.. عام بعام"، مؤكدا بذلك ما يروج في كل مرة بأن الغلة من الزيتون إن كانت جيدة في موسم ما فإنها تتراجع في الموسم الموالي.

لكن إن كانت هذه حكمة الطبيعة، فإن ليد الإنسان دخل فيها، لأن الواقع يشير إلى أن جني حبات الزيتون بطرق تقليدية تقتضي ضرب الأغصان بعصي، تسبب في الغالب كسر "الشبوبة"، أي البرعم الذي يزهر ثمرة في الموسم الموالي، هذا الأمر إن أضيف له قلة الاعتناء بالأشجار من تقليم وحرث وفتح مزيد من المسالك الجبلية، فإن النتيجة هي انخفاض المحصول وارتفاع مطرد في أسعار زيت الزيتون. خاصة إذا علمنا أن أغلب الأشجار تنمو في مناطق وعرة، إلى جانب غياب المسالك المؤدية إليها، يعني انعدام الاعتناء ونزع الأعشاب الضارة وحماية الأشجار من الأمراض الطفيلية، ناهيك عن غلاء الأسمدة، مما قد يهدد الأشجار بأمراض قد تقضي على كامل المحصول، في حين أن بعض الأمراض مثل "سل الشجرة" شديدة العدوى، "ولا بد هنا، من حرق الأشجار المريضة حتى لا تلقم منها أشجار أخرى"، يقول العم عمر زايدي، الذي أحضر بدوره غلة أشجاره إلى نفس المعصرة، وتحصيل الزيت التي يعتبرها "عمود الدار"، مؤكدا أمر استهلاك بين 80 إلى 100 لتر من زيت الزيتون سنويا، وقال إنه يلجأ إلى تخزين كمية منه لاستعماله كدواء..

الأمن.. "الجرازي".. وأحراش بني عمران

لا ترتبط عملية جني الزيتون في جبال بومرداس بفترة سنوية معينة، فالمعمول به لدى أغلب الأسر التي تملك أشجار الزيتون، هو انتظار الحب حتى يسودّ لونه،  فتخرج العائلات إلى الجبال لالتقاط حبات الزيتون.. وتدوم العملية أحيانا أسابيع بأكملها، خاصة بالنسبة لمن يملك عددا كبيرا من الأشجار، مع التأكيد على أنها عملية يجتمع عليها أفراد العائلة الواحدة. كما أن بعض أنواع الزيتون تكون حباته بنفسجية اللون، فمعنى ذلك أنها خالية من الزيت، فتوجه نحو الاستهلاك ويسمى هذا النوع "الجرازي". وهناك أيضا "بوشوك" وهو مخضر اللون ومتوسط الحبة، وهناك حبات أخرى تكون صغيرة بلونين أسود أو بني، معروفة لدى العامة بتسمية "العوام"، أي أنه "يرقّد" في الماء والملح لعدة أيام، ثم يؤكل ممزوجا بزيت الزيتون، حسب عادات كل منطقة.

اقتربنا من العائلات التي كانت منهمكة في جني حبات الزيتون في جبال بني عمران إلى حدود بلدية سوق الأحد، مما جعلنا نتأكد من حقيقة عودة السكان إلى الأرياف، وبالضبط المناطق الجبلية، بعد أن هجروها طويلا بسبب سنوات الإرهاب، حيث رافقنا في هذا الشأن، الفلاح محمد بليل إلى مستثمرته بمنطقة "تالة إمشماشن"، في أعالي جبال بني عمران، حيث توجد مئات أشجار الزيتون وعدد آخر من أشجار الكرز والتفاح والخروب وأشجار الكروم، في تزاوج مخضر يبهج الناظر، خاصة أن المستثمرة تشهد أيضا غرس أنواع عديدة من الخضر، تزينها الأعشاب العطرية كـ«حشيش الشوربة" والبقدونس وحتى سيقان  السبانخ البرية، حيث لا تتدخل يد الإنسان في غرسها.

قال محمد إنه من ضحايا الإرهاب، حيث تسبّبت ألغام تقليدية زرعها إرهابيون في المنطقة خلال التسعينات، في بتر ساقه اليسرى، وذكر أنه هجر أرضه والكثير من سكان المنطقة لسنوات طويلة، ثم قرر العودة إليها وخدمتها بعد استتباب الأمن، فيما يطلب اليوم من محافظة الغابات لولاية بومرداس، العمل على فتح المسالك الجبلية "التي تحتاج إلى تهيئة كل سنة، بفعل نمو النباتات والأحراش التي تجعل هذه المسالك وعرة، بالتالي يصعب بلوغ الأراضي وخدمتها. وأوضح أنه يضطر سنويا ترك قرابة 30 قنطارا من الزيتون يضيع بسبب انعدام المسالك لبلوغ الأشجار وجني المحصول.

ارتباط بالأرض.. وتعب تنسيه المتعة

من جهته الفلاح عليوات بوراس الذي يبلغ من العمر 70 سنة، وجدناه منهمكا في تقليم أشجار الزيتون في منطقة جبلية تفصل بين بني عمران وسوق الأحد، حيث استعان محدثنا مصطلح "نحرفو الأشجار" بمعنى تشجب الأشجار بعد أن تمّ جني حبات الزيتون حتى تكون بقامة واحدة، ومنه تقليمها حتى تعطي غلة جيدة في موسم قادم. وأكد أن غياب المسالك جعل الفلاحين من سكان القرية الواحدة يتضامنون ويجمعون مبلغا من المال، لاستغلاله في تهيئة المسالك التي تمكنهم من بلوغ أشجارهم. موضحا أن المسافة من وسط بني عمران إلى أعالي الجبل تقدّر بقرابة ثلاثة كيلومترات، لكن بمجرد هطول الأمطار، فإن الطريق يصبح مغلقا مجددا، وهو ما جعله يطالب بدوره المصالح المعنية بالتدخل وتهيئة المسالك بين الفينة والأخرى.

كما أوضح المتحدث أنه عاد إلى أرضه في قرية سيدي مغيث وقرية "اعجورن" عند الحدود مع بلدية سوق الأحد، التي سجلت كذلك عودة عائلات بأكملها إلى أراضيها، بعد استتباب الأمن وتوفر الكهرباء والماء، وهو ما ساعد على تثبيت السكان في أراضيهم، وتحدث في هذا الشأن عن مرارة فراق الأرض وتشبثه بخدمتها، مما جعله يورثها لابنه محمد الذي كان يساعده يومها على تسوية أغصان أشجار الزيتون، وأكد من جهته لـ"المساء"، تعلقه الشديد بأرضه، وعلى وجه الخصوص بأشجار الزيتون المعمرة الشاهدة على أحقاب تاريخية طويلة.

في طريق العودة لبلوغ مركز المدينة، التقت "المساء" بعائلة حميد زدك، وهي منهمكة في التقاط حبات الزيتون، حيث ذكر حميد، أحد أفراد هذه العائلة، أن لا شغل له خلال نوفمبر وديسمبر من كل سنة سوى الاهتمام بجني الزيتون، من أشجار ورثتها عائلته جيلا بعد جيل، فقد كان يومها رفقة أخيه ووالدته وابنه الصغير، منهمكين في جمع ما جادت به أشجارهم من هذا المنتوج، في جو يوحي بالارتباط الوثيق بالطبيعة والعودة إلى النبع الأصيل، وأوضح محدّثنا في هذا السياق، أن استقرار الطقس يساهم كثيرا في عملية الجني، رغم البرودة التي تتّسم بها المناطق الجبلية، "لكن بعد تحصيل لترات من الزيت المباركة واستعمالها في أكلنا اليومي.. ننسى المشقة والتعب"، يقول المتحدث، مؤكدا أنه لم يترك أبدا أرضه حتى خلال سنوات الإرهاب، في الوقت الذي أكدت والدته التي كانت تجمع حبات الزيتون أن "الزيت ينحي التعب"، في إشارة منها إلى أن ملء دلاء من زيت الزيتون بعد جني الزيتون، ينسي تعب الجني كله..