التحديات التي تنتظرنا

التحديات التي تنتظرنا
  • 477
الدكتور محند الطاهر بلعروسي مدير سابق بالمديرية العامة للبحث العلمي والتطوير التكنولوجي الدكتور محند الطاهر بلعروسي مدير سابق بالمديرية العامة للبحث العلمي والتطوير التكنولوجي

ثمّة اتفاق واسع النطاق على أنّ الاستثمار في البحث والابتكار، ضروري لتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية. فالتقدّم السريع في مجالي العلوم والتكنولوجيا وما يؤدي إليه من تغييرات كبيرة في مختلف قطاعات الحياة الاقتصادية والاجتماعية بالإضافة إلى تزايد النفقات في مجالي البحث والابتكار، ينبغي أن يدفعنا إلى إدراك وجود علاقة ترابط بين العلوم والتكنولوجيا والنموّ الاقتصادي. وهذا، على الأرجح، ما يجب أن يقودنا إلى إحداث تغييرات كبيرة في المنظومة الوطنية للبحث العلمي والابتكار الحالية. إنّها ليست مسألة حتمية فحسب، بل إنّها ضرورية.

في بلد غني كبلدنا، يجب علينا أن نستلهم تجارب النجاح التي حقّقتها دول أخرى عديدة تفتقر للموارد الطبيعية؛ مثل كوريا الجنوبية، التي حقّقت تقدّماً ملحوظاً بفضل الإصلاحات المستمرة، معتمدة بشكل أساسي، على المعرفة، والابتكار، واستغلال الرأس المال البشري، بما في ذلك استغلال إمكانيات الجالية في الخارج؛ لدعم الأهداف الوطنية للتنمية.
بعد الحرب الكورية (1950-1953)، تمكّنت هذه الجمهورية في فترة زمنية قصيرة، من تحويل بلد فقير وريفي وسكانه يموتون جوعا، إلى نجاح اقتصادي كبير، وهي الآن من بين الدول الأكثر تقدماً في العالم.

تشخيص موجز للمنظومة الوطنية للبحث

وما لا شكّ فيه اليوم، أنّ المنظومة الوطنية للبحث، المرتكزة على مثلث الدولة والجامعة والشركة، تواجه تحديات كبيرة في التنسيق والسياسات المشتركة.
إنّ تعدّد حالات التداخل بين مهام الوزارات، وخاصة الصناعة والتعليم العالي والبحث العلمي، والبريد والاتصالات، واقتصاد المعرفة، يؤدي، اليوم، إلى خلق حالة من اللبس وعدم التناسق؛ ما يعيق تطوير سياسة بحثية مشتركة، واستراتيجية شاملة، تتلاءم مع السياقات الوطنية والدولية. كما تبرز مشاكل أخرى؛ مثل التشتّت، والتكرار، وهجرة الأدمغة، وتدهور جودة الموارد البشرية، وإهدار الموارد، والبيروقراطية العقيمة، وغياب هياكل البحث والتطوير في الشركات، والفصل بين البحث والصناعة والتعليم… إلخ.
في ظلّ هذه الظروف وهذا النوع من المشاكل التي نواجهها، أليس الوقت ملائما الآن، لإنشاء وزارة كبرى للبحث والابتكار، تجمع الوسائل المتناثرة والمجزّأة بين عدّة وزارات، وتزوّدها بموظفين مؤهَّلين وأكفاء بما يكفي في مجال وضع سياسة البحث، والتطوير، وإدارة العلم والتكنولوجيا؟ وإلاّ فإنّ الهيئة الحالية المسؤولة عن البحث والابتكار، قد تكون موجودة بشكل رمزي أكثر من كونها فعّالة.
وبشكل عام، قد يتبيّن أنّ نقص الكفاءات المؤهلة في جميع مستويات المنظومة الوطنية للبحث، يمثل تحدياً كبيراً، وعقبة قد يكون من الصعب التغلّب عليها لتحقيق التنمية المنشودة.
ومع ذلك، فإنّ تحديات الفترة 2024- 2029 التي تنتظر الجزائر الجديدة والتي تنعكس في التوجهات الاقتصادية الكبرى التي تم الإعلان عنها، لا تمثّل سوى فرصة مثالية للبدء فوراً، في إعادة هيكلة شاملة للمنظومة الوطنية للبحث، ليصبح أكثر توافقاً مع التطوّرات الحالية في البحث والتطوير على المستوى العالمي، وكذلك مع السياق الجديد، الذي يتمثّل في انفتاح اقتصادنا على الخارج، خاصة أنّ مسألة الاقتصاد كانت محور العديد من الخطابات في إطار الحملة الانتخابية للمرشحين للانتخابات الرئاسية في 7 سبتمبر 2024.
في هذا السجل، يُعدّ بناء دولة اقتصادية قوية وحديثة، مشروعاً معقداً وواسع النطاق، يستند إلى رؤية استراتيجية طويلة المدى. وينبغي أن تضع البحث والابتكار في قلب التنمية الاقتصادية والاجتماعية الشاملة.
ويتطلّب هذا المشروع كسب تأييد المجتمع على نطاق واسع، وإلاّ سيكون ذلك مجرّد تفكير، مبنيٍّ على التمني، ولن يؤدي إلاّ إلى إدامة الوضع الراهن الذي سيستمر لفترة طويلة جدا ما لم يكن هناك جهد وطني متضافر، بمزيد من التبصّر، والإرادة السياسية المتجدّدة، مع رؤية أعمق للعلوم والتكنولوجيا.
وبعبارة أخرى، إنّ تحويل البحث والابتكار إلى طموح وطني كبير يعني إثارة الحماسة والتفكير، وإطلاق مشاريع جديدة، وتوظيف الطاقات العلمية الكامنة. ومن شأن هذا أن يشمل موضوعات جديدة للبحث، وأفكارا مبتكرة، وبرامج محفّزة، وأقطابا تكنولوجية إقليمية، وشركات جديدة، وتحسين تصنيف الجامعات الجزائرية على الصعيد العالمي، ومنتجات وشراكات جديدة... إلخ. ماذا يسمى كل ذلك؟، "وماذا لو أُطلق عليه ببساطة، " الخروج من الأزمة!" ؟ كما تم التعبير عنه خلال ندوة وطنية حول البحث والتكنولوجيا.

التوجّهات الكبرى للسياسة الاقتصادية

التوجّهات الكبرى للسياسة الاقتصادية وسياسة الاستثمار التي وضعتها أعلى السلطات في البلاد، تؤكّد الإرادة القويّة لتنويع الاقتصاد، وتطوير نموذج يعتمد على الابتكار والمعرفة، وبالتالي يجب أن تكون هذه التوجّهات محورا أساسيا في البنية المؤسسية الشاملة في ما يتعلّق بالتنسيق، والتنظيم، وإدارة الاستثمارات، والبحث والتطوير، والابتكار، والتعليم، والبنى التحتية، وغيرها.
وقد وردت هذه التوجّهات الكبرى على النحو التالي: التأكيد على الإرادة السياسية للاعتماد على البحث العلمي، والابتكار التكنولوجي، واقتصاد المعرفة؛ كعوامل رئيسة لدفع عملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية، العمل على صياغة وتنفيذ نموذج اقتصادي منتج أقل اعتماداً على صادرات المحروقات، ويعزز استغلال الموارد المحلية؛ تعبئة الكفاءات الوطنية داخل الجزائر وتلك الموجودة بالخارج؛ تطوير قطاعات النشاطات ذات الأولوية وذات قيمة مضافة عالية؛ إعطاء الأفضلية للتحويل التكنولوجي وتطوير الابتكار واقتصاد المعرفة، تعميم استعمال التكنولوجيات الحديثة؛ تفعيل استحداث مناصب الشغل الدائمة وترقية كفاءات الموارد البشرية؛ تعزيز وتحسين تنافسية الاقتصاد الوطني وقدرته على التصدير؛ ضمان تنمية إقليمية مستدامة ومتوازنة.
وفي هذا الإطار، ينبغي، بالأحرى، أن نعكف على ترجمة وتحويل هذه التوجّهات الكبرى، إلى إجراءات وبرامج ملموسة مصحوبة بجدول زمني ومؤشّرات قياس، وموارد كافية؛ للتأكّد من تحديد الأدوار بوضوح بين الوزارات المعنية في مجال سياسات البحث والابتكار.
بعبارة أخرى، يتعلّق الأمر بالجرأة، والحكمة، وبُعد النظر، والحاجة الماسة للتغيير في سياسات البحث والابتكار؛ حيث يجب إيلاء المزيد من الاهتمام لإدارة العلوم والتكنولوجيا، وإيجاد الروابط التي تجمع بين العلوم والتكنولوجيا والأهداف الاجتماعية والاقتصادية. بمعنى آخر، يجب أن يكون لدينا منظومة بحث وتطوير متماسك ومتكامل، يدمج البحث العلمي والتكنولوجي، والتطوير التجريبي، والخدمات العلمية والتكنولوجية، مرتبطاً بشكل متين، بالمنظومة التعليمية من ناحية، ومنظومة الإنتاج من ناحية أخرى.

نحو أيِّ نموذج اقتصادي جديد؟

والآن، السؤال الأساس الذي ينبغي أن يكون ذا أهمية بالغة، هو: كيف يمكن ترجمة هذه التوجّهات العامة إلى إجراءات وبرامج ملموسة؟ وأيّ نموذج اقتصادي ستتبناه الجزائر في المستقبل؟ المقترحات التالية تمثّل الخطوط العريضة لتفكير مبدئي بشكل مختصر.

تعزيز البحث العلمي والابتكار التكنولوجي واقتصاد المعرفة

 يجب على الجزائر أن تعتمد نهجاً استراتيجياً، يهدف إلى خلق بيئة مواتية للابتكار والتميّز، وإنتاج تآزر أفضل في مجال البحث والتطوير في مجالات محدّدة للتكنولوجيا عالية التقنية، التي تربط بين العالم الأكاديمي وعالم الأعمال.
ومن الضروري تطوير سياسة حقيقية لأقطاب التنافسية (clusters)  بين القطاعات ومتعدّدة التخصّصات، والتي تركز على نوى بحث أساسية ذات إشعاع عالمي.
يجب أن تتيح هذه السياسة لعدّة فاعلين في نفس القطاع أو في قطاعات أنشطة متّصلة ومجتمعة في نفس الموقع الجغرافي، إمكانية توحيد الكفاءات والموارد؛ ما يوفّر رؤية أكبر على المستويين الوطني والدولي (الشركات، الجامعات، المدارس الكبرى، مؤسّسات التكوين، مؤسّسات الخدمات، الفاعلون في مجال الدعم مثل الحاضنات ومسرعات الشركات الناشئة). بمعنى آخر، إرساء نظام بيئي للابتكار. في كلّ قطاع من قطاعات النشاط، من المهم إنشاء شبكة عبر إقليمية تربط بين كيانات مماثلة؛ شبكة تكوين، شبكة بحث أساسي، شبكة بحث تطبيقي، شبكة ابتكار تكنولوجي… إلخ.

تعبئة الكفاءات الوطنية المحلية وتلك الموجودة بالخارج، تعزيز نقل التكنولوجيا وتطوير الموارد البشرية

لتحقيق أفضل استفادة من الكفاءات المحلية وتلك الموجودة بالخارج سواء كانت أكاديمية أو صناعية، من المستحسن إشراكها في محورين رئيسيين ومتكاملين: أولاً، من المنبع، في إعداد وتجديد برامج التعليم وتكوين الكوادر العلمية والتقنية المؤهلة تأهيلاً عالياً في مجالات علمية وتقنية وتكنولوجية متخصّصة وملائمة، تلك التي تشكّل روافع اقتصادية حقيقية، وكذلك من خلال إنشاء منصات برمجية ومادية مناسبة لترقية الشركات الناشئة. من المصبّ، الشخصيات الصناعية الموجودة بالخارج ذوو النوايا الحسنة التي تمتلك معرفة متقدّمة في البحث والتطوير، يمكن أن تتيح لنظرائها المحليين نقل المعرفة المتخصّصة وبعض فروع الأنشطة في مجال الابتكار التكنولوجي ذات القيمة المضافة العالية، التي تولِّد تدفقات كبيرة من العائدات، وتخلق فرص عمل.

تطوير قطاعات النشاط ذات الأولوية والقيمة المضافة العالية:

القطاعات ذات الأولوية في التنمية الاقتصادية تم ذكرها على الموقع الإلكتروني للوكالة الجزائرية لترقية الاستثمار. ويبقى السـؤال الحاسـم مطروحاً، وهـو: كيف يمكن الجزائرَ دمج اقتصادها في الحلقات ذات القيمة المضافة العالية، ضمن سلاسل القيمة العالمية في القطاعات التكنولوجية عالية التقنية (مثل المواد الجديدة، الإلكترونيات الدقيقة، التكنولوجيا الحيوية، مصادر الطاقة الجديدة)، وكذا الآليات المناسبة التي يمكن الجزائر من خلالها، المشاركة في التنمية العالمية للتكنولوجيا والنشاط الصناعي والمقاولاتي؛ ما يبني قاعدة تكنولوجية صلبة، ويعزّز في الوقت نفسه، التنمية الصناعية المستدامة والمتكاملة؟.
في الختام، فإنّ هذه المساهمة التي تتضمّن اقتراحات مهمة لكنها بطبيعتها غير مكتملة نظرا لحجم التحديات التي يجب مواجهتها، تهدف بشكل أساسي، إلى إثارة الاهتمام، وتحفيز التفكير والحوار مع جميع الأطراف المعنية بالبحث في بلدنا، بمن فيهم الباحثون والأساتذة الباحثون أنفسهم. يجب أن تكون هذه الاقتراحات موضوع دراسة ومناقشة معمّقة من قبل مجموعة علمية عالية المستوى.
الجزائر تمتلك إمكانيات اقتصادية، معدنية، طاقوية، وبالأخص بشرية هائلة؛ سواء كانت محلية، أو تلك الموجودة بالخارج؛ لذلك علينا أن نملك الإرادة والشجاعة السياسية اللازمة لإعادة تنظيم شامل ومتماسك لسياسة البحث والابتكار؛ حيث يتم توزيع الأدوار مع توحيد الموارد في بعض المجالات؛ فهذا هو مفتاح النجاح المستقبلي لاقتصادنا، والمعجزة في متناول أيدينا.