11 ديسمبر 1960 - 11 ديسمبر 2024
كفاح ضد الاستعمار بالأمس واليوم: نكون أو لا نكون
- 239
يحيي الشعب الجزائري الذكرى الرابعة والستين لمظاهرات 11 ديسمبر 1960، فتطفو أحداث هذا اليوم العصيب على سطح الذاكرة الوطنية الزاخرة بالمآسي والجرائم ضد الإنسانية، والتي ارتكبها الاستعمار الاستيطاني الفرنسي ضد الجزائريات والجزائريين بساديته المعهودة طيلة 130 عام..
لقد خرج إذن الجزائريون في مظاهرات سلمية من أجل تأكيد مبدأ الحق في تقرير المصير، بينما كان الجنرال شارل ديغول يقوم بزيارة إلى الجزائر في محاولة فاشلة لإنقاذ أطروحة "الجزائر فرنسية" من خلال مخطّطه المسمى "الطريق الثالث".
السياسة الجزائرية للجنرال ديغول تهدف قبل كل شيء إلى الاختيار بين إنقاذ النظام الاستعماري الفرنسي في الجزائر، أو إنقاذ فرنسا.
للتذكير، بعد وصوله إلى الحكم إثر انقلاب عسكري في 13 ماي 1958، قام به "جاك سوستيل" والجنرالات الذين قادوا الجيش الفرنسي في الجزائر، توجّه الجنرال ديغول إلى الجزائر في 4 جوان 1958 حيث أطلق جملته الشهيرة "لقد فهمتكم"، واضعا كل إمكانيات فرنسا في خدمة الجيش، وذلك ظنا منه بإمكانية الانتصار على جيش التحرير الوطني، ومن ثم، تمهيد الطريق أمام قوة ثالثة كان يريد إقحامها في الحلّ الجزائري..
مظاهرات 11 ديسمبر ونهاية أوهام ديغول ودعاة الجزائر فرنسية..
ولأن لا أحد بإمكانه وقف مسار التاريخ، وضع كل من جيش التحرير الوطني ومظاهرات 11 ديسمبر، حدا لأوهام ديغول ودعاة الجزائر فرنسية.. في النهاية، خضع ديغول للإرادة التحرّرية للشعب الجزائري واختار إنقاذ فرنسا بعد اقتناعه أن كل الخطط التي وضعها من أجل إبقاء فرنسا الاستعمارية في الجزائر، لم تكن مجدية.
بدأت المظاهرات في 9 ديسمبر 1960 في ولاية عين تيموشنت ثم اكتسبت زخما ابتداء من 11 ديسمبر، حيث تظاهر عشرات الآلاف من الجزائريين في الجزائر العاصمة وفي مدن جزائرية أخرى مثل عنابة، لاسيما في الأحياء الشعبية بالعاصمة على غرار حي بلوزداد (بلكور سابقا) والمدنية (صالومبي سابقا) وباب الواد.. لقد أراد الشعب الجزائري التعبير عن انضمامه للثورة ودعمه وتمسّكه الراسخين بجبهة التحرير الوطني وجيش التحرير الوطني رغم الخطط والإصلاحات الزائفة، ومنها مخطط قسنطينة والانتخابات البلدية لعام 1959، والتي كانت تهدف إلى جعل الجزائريين يصدقون الاستيعاب الزائف لقضيتهم.
مدنيون مسالمون عُزّل في مواجهة الدموية الاستعمارية الأزلية
وهاهي اليوم أربعة وستون عاما تمر على المجازر التي أراق فيها الجيش الفرنسي دماء الأبرياء، واستعرض أمام مدنيين مسالمين عُزل دمويته الأزلية وحقده المستدام على شعب ثائر حرّ، كتب بكفاحه ووطنيته وتضحياته نهاية لأسطورته الوهمية التي قامت على تزييف التاريخ وإزهاق الأرواح ونهب الثروات ومسح الهوية والسيطرة واستعباد الناس.. أسطورة صدقها المستعمر وحلفاؤه، فعاث فسادا في أرضنا المباركة الطاهرة، لكن إلى حين...
لايزال شهر ديسمبر مرتبطا في الوجدان والأذهان بمظاهرات عشريته الأولى، فمن يقول 11 ديسمبر يقول خديعة ورصاص وجبروت ورشاشات ورايات وطنية وأطفال ونساء ورجال بواسل وهتافات من حناجر بلعت الجمر بأن تحيا الجزائر الحرة المستقلة،.. يقول شوارع مزدحمة بأصحاب الأرض يعلنون فيها ولاءهم للحكومة الجزائرية المؤقتة، والتزامهم ببيان ثورة أول نوفمبر التي أتمت حينذاك عامها السادس وحقّقت انتصارات عظيمة وأشرفت على بلوغ الغاية وهي الحرية والاستقلال..
رسالة شعبية إلى الاستعمار بأن النصر قد تقرّر
لقد أراد الشعب الجزائري بخروجه في مظاهرات عارمة تبليغ رسالة إلى الاستعمار الفرنسي بأن النصر قد تقرّر، وأن الشعب لم يتمرد بل ثار وثورته شعبية وليست نخبوية، والاستقلال خيار بلا بديل، وأن محاولات الاستدراك بمخطّطات استعجالية وتراجع مدروس عن شعار الجزائر فرنسية، وكذا، الاستدراج والتمويه بشعار الجزائر جزائرية، لن تثني الثوار عن عزمهم، ولن تضع الثورة أوزارها وأن مصير الشعوب لا يخضع للوعود والمصالح والمناورات السياسية الفاشلة، ولا تحدّده زيارة رئيس جاء حالما فعاد خائبا يجر وراءه رفضا شعبيا قاطعا لمشروعه الاستيطاني الجديد..
ولأن الاستعمار تلميذ غبي، لم يستوعب عمق الرسالة، ولا يزال إلى اليوم يتجاهل رسائل التاريخ،..
لقد حقّقت مظاهرات 11 ديسمبر 1960 انتصارا دبلوماسيا كبيرا لم تتوقعه إدارة الاحتلال، بعد انتشار الصور الدامية التي التقطها الصحفيان الإيطاليان برناندو فالي، وبييرو انجيلا، اللذان وضعتهما العناية الإلهية شاهدي عيان، فتفوّقت صورهما الصادقة على ترسانة الدعاية الاستعمارية الكاذبة،.. واستحقا بذلك التكريم الذي حظيا به من طرف رئيس الجمهورية السيد عبد المجيد تبون.
المظاهرات وجّهت الرأي العام العالمي نحو حقيقة القضية الجزائرية، وأزالت أمام المجتمع الدولي ما تبقى من قناع لفرنسا الاستعمارية، ووضعت حدا لسنوات من التضليل الذي مارسته بالنفاق، وأرغمتها على الخضوع جبرا لقرارات الشرعية الشعبية التي أكدتها انتفاضة الشعب، ولقرارات الشرعية الدولية التي أقرّت حقّ هذا الشعب البطل في تقرير المصير والاستقلال، وذلك خلال الدورة 15 للجمعية العامة للأمم المتحدة المنعقدة في 20 ديسمبر 1960... فقد أحدثت هذه المظاهرات وقعا دوليا كبيرا على المستويين الدبلوماسي والإعلامي، عزّز مواقف الحكومة الجزائرية المؤقتة خلال المفاوضات من أجل الاستقلال، وذلك بوصفها الممثل الشرعي والوحيد للشعب الجزائري.. فبنفس مستوى التضحيات كان مستوى الدعم الذي قدمته هذه الانتفاضة لمسار الثورة ولمرافعات الدبلوماسية الجزائرية في المنابر الإقليمية والدولية..
وأي مصير تختاره الشعوب الأبية المنتصرة غير السيادة والحرية والاستقلال؟
لقد عادت وحشية الاستعمار الفرنسي وسُعاره ضد الجزائريات والجزائريين، وبالا عليه، فحصد حقا وعدلا ما زرع من دمار وإرهاب وعنصرية ونهب لخيرات الشعب منذ 130 سنة، استباح فيها الأرض والعرض والروح والثروة والهوية..
أصوات صادحة محفوظة في جينات الأجيال
لا يزال صدى تلك الأصوات الصادحة في الشوارع الجزائرية محفوظا في جينات الأجيال، تردّده القلوب والأقلام والحناجر.. "الجزائر حرة مستقلة".. "الجزائر ليست فرنسية ولن تكون"... إنها شعارات خلّدها التاريخ لتبقى سارية مادامت الحياة، ومادام الاستعمار باقيا ينهش حقوق الشعوب ويسعى إلى تكريس الاحتلال في كل بقاع العالم لاسيما في قارة إفريقيا.. "الجزائر حرّة مستقلة"، شعار خالد يؤرّق الدول الاستعمارية لأنه يذكّرها بحتمية التاريخ وما ينتظرها من سوء المصير،.. فكل الشعوب التي ترفض الاستعباد هي الجزائر، وكل الحركات التحرّرية الرائدة في العالم ألهمتها ثورة أول نوفمبر، وكل فكر أصيل مناهض للاستعمار لابد قائم على اليقين بالنصر، والذي قدمته ثورة الجزائر للإنسانية كضمان عن صحة منهجها لكسر حاجز الخوف...
لقد أسقطت الثورة الجزائرية المباركة 7 حكومات فرنسية ومعها الجمهورية الرابعة... بعد فشلها في تحقيق أهدافها الاستئصالية من خلال حرب الإبادة التي شنّتها ضد الشعب.. سقوط الحكومات المتوالي أكد للداخل والخارج أن قاطرة الحرية تسير في الطريق الصحيح،.. لذلك تنافس القادة العسكريون الفرنسيون من أجل وقف جموح هذه القاطرة وإجهاض الثورة، فكثّفوا انتهاكاتهم وتفنّنوا في أساليب الجريمة،.. في المقابل واصل الشعب الجزائري صموده وكفاحه وانتفاضته، ودفع في مظاهرات 11 ديسمبر ما تبقى من ثمن لهذه الحرية الغالية التي ننعم بها اليوم..
إن ملحمة ديسمبر تثير في نفسي الكثير من الشجن.. فقد تحمّل فيها الشعب في ستة أيام هيستيريا فرنسا الكولونيالية وتكالب جنرالاتها ومستوطنوها بحقدهم المتراكم منذ ست سنوات هي عمر الثورة... وبعد أن أسقطت الانتفاضة كل أطروحة خارج خيار الاستقلال، تكتل الفرنسيون الواهمون من هذه الزمرة الكولونيالية الفاسدة فيما يسمى منظمة الجيش السري OAS، والتي تأسّست لمنع استقلال الجزائر وعرقلة تنظيم استفتاء تقرير المصير، وذلك في مرحلة ساد بينهم اليأس والإحباط والجنون الذي خلّفته الصدمة من قرب فقدان الفردوس..
أطياف التوجّه الاستعماري الاستيطاني المقيت لا تزال تحوم
واليوم، بعد سبعين عاما عن قيام الثورة التحريرية المجيدة، واثنين وستين عاما عن استقلال الجزائر، لا تزال بقايا هذه المنظمة الإرهابية الكولونيالية متمسّكة بوهم الجزائر الفرنسية، لاسيما بعد أن تغلغل فكرها الإقصائي المتطرّف في الأوساط الرسمية الفرنسية، معبرا عن رغبته في استنساخ الفكر الاستعماري البائد وخلق بيئة ملائمة لتأجيج الصدام...
إن أطياف التوجّه الاستعماري الاستيطاني المقيت، لا تزال تحوم حول سيادة الدول وأمنها وحقوق الشعوب وثرواتها، تحاول عبثا إحياء مجد ملعون ملوّث بالدماء، وتغذي أمانيها بالتحالفات الخبيثة والمؤامرات وسوء الجوار،.. مازال الاستعمار غارقا في غبائه، يستخدم نفس ممارساته التي كبّدته الهزائم.
الجزائر الحرّة المستقلة تنظر بالتاريخ إلى الأمام
ودفعت به إلى هامش التاريخ، فيخلق الأزمات ويشتري الذمم ويتاجر بالقيم ويمارس التضليل والاستفزاز والوصاية ويراهن على ولاء الحركى الجدد..
الجزائر الحرّة المستقلة تنظر بالتاريخ إلى الأمام، فلم يكن عبثا بناء الجزائر النوفمبرية المنتصرة بقيادة رئيس الجمهورية السيد عبد المجيد تبون، وفقا للمبادئ التي جاء بها بيان أول نوفمبر.. والذاكرة الوطنية التي استعادت مكانتها في حاضر الأمة الجزائرية بإشراف من رئيس الجمهورية، هي بوصلتنا في سياساتنا واستراتيجياتنا وعلاقاتنا وتحالفاتنا ومواقفنا وقراراتنا.. الحاضر غرَاس الماضي، والجزائريات والجزائريين غرسوا الوحدة والشجاعة والوطنية وبذروا عقيدة النصر، ويجنون الآن حاضرا مزدهرا آمنا مستقرا، تنتصر فيه الجزائر على مختلف التحديات وفي كل المعارك..