الدكتوران بوطاجين وبن تومي يتحدثان لـ"المساء":

التاريخ .. حقائق مشتركة ووسيلة لاستعادة الذاكرة

التاريخ .. حقائق مشتركة ووسيلة لاستعادة الذاكرة
  • القراءات: 774

تحدّث الدكتور سعيد بوطاجين لـ"المساء” عن إشكالية تناول الرواية للتاريخ وما تخلّفه من ردود فعل أغلبها صاخبة وحتى مندّدة، في حين تحدّث الدكتور اليامين بن تومي عن إشكالية كتابة التاريخ بصفة عامة، فكان هذا الموضوع.

الدكتور اليامين بن تومي: التاريخ الرسمي وتاريخ الهوامش

قال الدكتور بن تومي إنّنا في عمق الكتابة نتحدّث عن نوعين من التاريخ وهما تاريخ عام رسمي ومؤسساتي. وتاريخ غير رسمي، مناطقي وجهوي وإثني، تاريخ صامت لم يكتب بعد، ليتساءل “كيف لنا أن نكتب هذا الصامت الذي لا يحسن الكلام ولا الثرثرة؟ لأنّ الكلام في أصله يتّصف بطابع مؤسّساتي وسلطوي”.

وتساءل مجددا “من يتحدّث في العادة في عمق التاريخ؟ وأجاب إنّ المؤسسة، هي من تمتلك حقّ الكلام، ومن يتكلّم في العادة هم الأقوياء، فهل يملك التابع حقّ الكلام؟ معناه كيف يمكننا إذن أن ننجز تاريخا للضواحي والهوامش والأطراف؟، ويجيب أنّه لابدّ أولا أن نتحرّر من الأدوات التي يتّخذها المركز أساسا له، معناه أن نتحرّر من كلّ الأساس الفلسفي والمعرفي والرؤيوي للاستعمار الذي قسّم العالم إلى شمال وجنوب، بل قسمهم إلى سادة وعبيد وإلى مركز وهامش، عاصمة وأطراف. كما أنّ فكرة العاصمة وما تشكّله من مخيال مركزي وسلطوي هي مكان لتجمّع الإدارات والمراكز لتكون أداة في يد الكولونيالي/المستعمر لضرب الأطراف.

ليس يسيرا التكلّم داخل التاريخ

واعتبر الدكتور أنّ التكلّم داخل التاريخ ليس أمرا هينا، لأنّه بنية معرفية ورثت تقاليد عريقة من التراكمات المعرفية الغربية الاستعمارية في صيغتها الهيغلية، لهذا فنحن بحاجة إلى عملين جسورين وهما: قلب المنطق الهيغلي للتاريخ المبني على ثنائية سادة وعبيد إلى منطق سادة سادة. وتعديل وضعية العاصمة والضواحي لتصبح الجغرافيا الوطنية واحدة أمام الكتابة التاريخية. وتابع أنّنا أمام هذا الاستئناف للدور كسادة سنكتب تاريخنا، ونكون قد تجاوزنا المخيال الكولونيالي للعاصمة باعتبارها منتجا رأسماليا يخدم المركزية في شكلها المتعالي، أي نكون قد جعلنا من الأطراف موضوعا للتاريخ.

تحدّ كبير

وأكّد بن تومي أننا أمام تحدٍّ كبير، أي أن نكتب بحبر يشبه لون جغرافيتنا السمراء، حبر يفكّك لعبة القذارة التي تعرّضنا لها طوال تاريخنا الكولونيالي، أي إننا بحاجة لنعيد المكانة للأطراف لا لكونها كذلك، بل لكونها موضوعا للاختلاف الثقافي. وألّح على حاجتنا بعمق إلى إعادة كتابة، حتى لا نبخس حقّ المحاولات الكتابية العميقة التي باشرها نخبة من المؤرخين الجزائريين على رأسهم العلامة والمؤرخ الجزائري “أبو القاسم سعد الله” وكتابه المهم “تاريخ الجزائر الثقافي” الذي كان شغوفا ببيان “مساهمة الجزائر في الثقافة العربية الإسلامية والإنسانية عبر العصور، ذلك أنّ المستعمرين الفرنسيين قد بثوا طيلة احتلالهم للجزائر بأنه لم يكن لأهلها ماض سياسي ولا ثقافي، علاوة على إهمال الدارسين العرب والمسلمين لتاريخ الجزائر”.

وتابع مجدّدا أنّ بيداغوجيا الكتابة التاريخية مع هذا الكتاب علّمتنا أن ننتقل من الكلّ الموسوم بـ"التاريخ العام” إلى الجزء الموسوم بكتابة “التاريخ المحلي” هذا النوع من الاستراتيجية هو الانتقال من مركز أصبح يشكل عبئًا على الدولة الوطنية، إلى إعادة صياغة الوطن بإخراج محلياته مخرجا وطنيا. وأضاف أنّ الكتابة عن الدَّوار والمَحلِّ والإقليم، هو إعادة إنتاج وتأثيث لفكرة الوطن من خلال تلك الصناعة البسيطة للعناصر الصغيرة، أي أن يتحوّل هذا الصغير إلى وعينا ويصبح موضوعا للوعي بعد أن كان خارجه.

وأضاف محدّث “المساء” أنّ الوعي هنا ليس مسألة ذاتية، إنّما هو الوعي الوطني بشكل عام، أن يعترف ما هو وطني عام ورسمي، بما هو محلي أنَّه منه، ليصبح البناء مكتملا من بناءات الوعي، لذلك يعمل هذا الوعي الوطني الكلي المتّسم بالوثوقية والجاهزية على نسيان مقيت لكلّ التاريخيات الجزئية المقيمة على الحافة أو الموجودة على تخوم التاريخ الوطني؛ إنّها تاريخيات تتعرّض للنسيان دائما، فعن أيّ نسيان نتحدّث؟- يتساءل اليامين.

الانطلاقة تكون من التاريخ المحلي

كما ذكر بن تومي أنّ صناعة التاريخ تنطلق أساسا من الاعتراف بما هو جزئي وثقافي ومحلي، فإعادة بناء هذا النموذج التأريخي للمحليات هو إنتاج وعي خاص، يقوم بالضغط على الخصوصيات الثقافية لترميم واجهة الهوية التي تشعر بثقل الرواية الرسمية.

إذن لماذا نبحث عن كتابة تاريخ محلي؟ ولماذا نُحسُّ أنّ هناك من يرفض هذا النوع من الكتابة الإقليمية أو المحلية، ولماذا الخوف من هذا النوع من التأريخ؟، وفي هذا قال “يقتضي منا التحليل هنا؛ أن ننتج شكلا مدرسيا لمعنى التاريخ المحلي، حتى لا يظهر مضادًّا لما هو وطني. أنّنا بصدد البحث في الإنسيات التي تتجاوز شكل الإنسية الرسمي، أي أنّنا في عمق المسألة التاريخية نتحدّث عن عناصر إنسية تختلف عن الإنسية المعاصرة التي حاولت وضع الجزائري داخل مربع أو دائرة مغلقة بل وداخل حدث تاريخي وحيد هو الثورة التحريرية”.

واعتبر الدكتور أنّ الكتابة المتغطرسة للتاريخ هي لحظة طفولية بامتياز لأنّها تتّسم بالأنانية والنرجسية والتعالي، ولذلك علينا اليقظة والحذر من أيّ تغطرس يؤدي بنا إلى إهمال المكوّنات الثقافية المختلفة، لأنّ الانفتاح على هذه المكونات يؤدي بنا إلى الانتقال نحو وضع جديد للكتابة التاريخية، إنّها شكل من أشكال الكتابة الأطلسية، أو الأطالسية التي تهتم بالمقوّمات الثقافية الخاصة بإقليم واحد عبر التاريخ لتعطي زخما معرفيا عن الكتابة التاريخي. كما تمكّننا من بناء تاريخ تعاقدي تنصهر فيه جميع المكوّنات الثقافية، ونكون هنا قد تجاوزنا غطرسة التاريخ الكلي لبناء نموذج تاريخي تعاقدي يتأسّس من تجميع مجموعة من تاريخيات القطرية للحفاظ على اللَّبِنَات المؤسّسة للذاكرة الجمعية التي ما تزال على وهجها الشفوي،  مؤكّدا رغبته من خلال هذا التأسيس إلى نقلها إلى وضعية الكتابة، فالكتابة فعل ملازم لتأسيس مُواطنية حقيقية، بل ملازم لتأسيس الدولة التي تهتم بإبراز المحليات والضغط على المواطنية الجامعة، يضيف بن تومي.

هل التاريخ طبقة واحدة؟

يعتقد بن تومي أنّ التاريخ أكد بن تومي يعتقد بن تومي طبقات أو لنقل تاريخيات، بمعنى هل نتحدّث عن تاريخ خالص يهتم فقط بالأحداث، أو نتحدّث عن تاريخ لأفكار أو عن تاريخ اجتماعي؟ لعلنا لم نفهم معنى التاريخ بعد؟ فهل يمكننا أن نكتب عن حدث ما على نفس المسافة التي نتحدّث فيها عن حياة أديب أو فنان عن الكتابة على شواهد القبور؟، ماذا يعني إذن التاريخ؟ إذا كان كلّ هذا تاريخا؟ إذن فالتاريخ ليس رؤية بيضاء للعالم، لقد جلب إليه حقولا معرفية متعدّدة، أفرغت التاريخ من صرامته الخالصة ليصبح عبر تخصّصي أو يصبح حقلا ثقافيا، يضيف الدكتور.

وأشار الدكتور الى عمل التاريخ الجزئي/المحلي والإقليمي على تجاوز الاختزال الذي باشره التاريخ الكلي، ومن ثمة إعادة ترميم الهوية الوطنية التي هي هوية مموّهة بإيديولوجيا العمومية والشمولية، بل هوية متعالية، لا تنسجم مع الهويات الأرضية. واعتبر أنّ هذا النوع من جدوى الكتابة التاريخية يعمل على استعادة الأرض ضمن حلقة كبرى لتوسيع الاستقلال من خلال استعادة الذاكرة وتنقيتها من المشروع الكولونيالي الذي يتساكن داخلها، ومن ثمة استعادة الحاضر وتحويله إلى ميدان لإنجاز التصالح الكلي للهويات المركبة، وتأسيس الاختلاف الذي يتجاوز الرؤية المؤسساتية التي تعمل دوما على تصدير شكل واحد للهوية التاريخية ذات مرجعية محدّدة دون وضع خارطة أرضية للهويات الهامشية التي ساهمت عبر تاريخها في ترسيم هذه الهوية المجروحة.

واختتم الدكتور حديثه بالتأكيد على حمل هذا النوع من التاريخ الجسارة نحو استعادة الخارطة الوطنية لبناء هوية جامعة، ومن ثمة تجاوز مشاكل الذاكرة للانخراط في بناء رهانات التوقع، أو صناعة المستقبل على قاعدة صلبة ومتينة .

الدكتورالسعيد بوطاجين: التاريخ ليس أخيلة ووجهات نظر

أكّد الدكتور السعيد بوطاجين أنّ الكتابات الأدبية، بأجناسها وتوجّهاتها لها علاقة ما بالمحيط الخارجي، سواء كانت تاريخية أو خيالية، ومن ثم فهي تخضع لمجموعة من الضوابط التي تفرضها الثقافات والكيانات، وقد يكون للكاتب والقارئ معا دور في الحدّ من حريتها، وذلك بفرض رقابة متفاوتة تتعلّق بالسياسي والأخلاقي والديني.

وأضاف أنّ الخيال أيضا لا يسوّغ ما يمكن أن يعتبره المتلقي تجاوزات للأعراف ولروح المجتمع الذي عادة ما يسعى إلى تقنين فعل الكتابة للحفاظ على تماسكه، أو على مجموعة من الجماليات الجامعة. لذا يعتبر أيّ خرق فظّ عبارة عن هدم لمرجعياته الموجّهة، وللذائقة.

وتابع الدكتور أنّ مشكلة بعض التحديث تتعلّق بالقفز على الحلقية، دون مقدّمات فلسفية وفنية مقنعة. ما يجعل الخرق مفاجئا، ومرفوضا، سواء تعلّق الأمر بالخيال أو بالتاريخ كمادة مشتركة. مشيرا إلى أنّ ما أثير حول الرواية المحتملة التي اتّخذت قصة “حيزية” موضوعا لها يدخل في باب تحصين الذاكرة من الهدم لأنّ الأغلبية تتّخذ بعض المحكيات متكأ، حتى عندما تكون خرافية أو أسطورية. مضيفا أنّ هناك حكايات خيالية غدت إرثا مشتركا، وقيمة مرجعية ضاغطة، قريبة من المعتقد، ومن ثمّ صعب نقدها أو تجاوزها. الأمر يتعلّق هنا بطريقة المراجعة، وبمعرفة الفعل ومستويات الأساليب الإقناعية التي تجعل المتلقي مطمئنا، ولا يرى في التعديل موضة مجانية. لكنّ بعض الكتّاب ينطلقون من خيالهم المستقل في قراءة الواقع، وهم يضطهدون القارئ، معتقدين أنّهم يعرفون ما لا يعرفه، ومن ثم وجب عليه امتصاص ما يكتبونه، دون مناقشته،  وهذا خلل في المفهمة.

وأكّد الدكتور أنّ فكرة “لكم دينكم ولي دين” لا تنسحب على الشأن الأدبي لأنها استعلائية، منفصلة عن المجتمع، ولاغية لطرف من أطراف التواصل، أي القارئ المعني بالخطاب، ما عدا إن كنّا نكتب لأنفسنا، أو رافضين لكلّ الضوابط، كما حصل مع بعض الكتّاب في الغرب في فترات تاريخية سابقة، ومنهم ستندال وهنري ميللر.

كما اعتبر أنّ الكتابة في قضايا التاريخ لا تعنيه كثيرا عندما تكون واقعية، أو عندما يُراد الحلول محلّ المتخصّصين، لأنّ الكاتب ليس مؤرّخا، وهو لا يمتلك مؤهلاته. ولقد طرح الناقد الروسي بيلنسكي سؤالا مهمّا “ما الشيء الذي يضفي على الأدب قيمة فنية رغم أنّه تاريخي؟”. الأمر يتعلّق بالكيفية، بالأدبية، وليس بالمعلومة في حدّ ذاتها، يضيف بوطاجين.

وشبّه الدكتور بعض الكتابات التاريخية بالكتابة الإخراجية في المسرح والسينما، علما أنّها تسبّبت في عدّة صدامات بسبب الحذف والإضافة. ما جعل بعض الكتّاب يتمرّدون على المخرجين لأنّهم يخونون النصّ، معتمدين على وجهة النظر. الأمر نفسه بالنسبة للعلاقة ما بين السردي والتاريخي. كما أنّ الاعتقاد بأنّ الرواية وجهة نظر تجاه التاريخ أمر لا يستقيم عقلاني، وقال أيضا “لقد قرأت روايات جزائرية، نظرت إلى الرموز الوطنية، وإلى بعض المعتقدات، انطلاقا من انتماءات أيديولوجية أملتها مؤسّسات ضاغطة لها منطقها، وهي صادمة في أغلبها، وغير مقنعة. لذلك اعتبرها القارئ اعتداء على الدين والذاكرة والشخصية، ونوعا من الترف الذهني والاستهتار بالقيم والمتكآت، خدمة للآخر، وتبييضا لصورته. التاريخ حقائق مشتركة، وليس أخيلة ووجهات نظر”.