التاريخ يدخل مناطق الظل ويبدّد المحظورات

السعي إلى عمق الأحداث وتفاصيلها المغيّبة والمهمّشـة

السعي إلى عمق الأحداث وتفاصيلها المغيّبة والمهمّشـة
  • القراءات: 481

برزت محاولات جادة لقراءة التاريخ وكتابته من منظور مختلف وتجديدي، وذلك من خلال العملية النقدية المستمرة لما هو متوفّر، فاعتماد قناعة أنّ التاريخ لا يكتب مرة واحدة (مغلق)، هي محاولة للخروج عن النمط السردي السائد وذلك لا يعني التقليل من جهود الباحثين والمؤرخين الذين سبقوا. يرى البعض أنّ الكثير من الأرشيف ومن الشهادات صارت اليوم بمتناول اليد، بفضل سهولة الوصول للمصادر والمعلومات، زيادة على المنهجيات والنظريات العلمية التاريخية التي تتجدّد وتتطوّر باستمرار وبالتالي أصبح لزاما على المؤرّخين، خاصة الشباب منهم، أن يطلعوا ويحلّلوا ما كتبه سابقوهم مع محاولة تطوير عملية الكتابة التاريخية للوصول إلى مناطق الظل التي لم يدخلها السابقون. لا يكتب التاريخ مرة واحدة أيضا، لأنّ الظروف السياسية التي كتب فيها بعض المؤرخين تغيّرت، والمحظورات التي كانت في زمانهم تبدّدت، ما أطلق يد الباحثين في السعي إلى عمق الأحداث وإلى تفاصيلها المسكوت عنها أو المغيّبة والمهمّشة رغم دورها وتأثيرها ونفض الغبار عما تم ردمه، ناهيك عن ربط التاريخ اليوم بالتحوّلات والأبعاد الاقتصادية والاجتماعية وغيرها. 

أوليفيي فانون: التفاصيل والإنسانيات مطلوبة في عملية التأريخ

تحدّث السيد أوليفيي نجل المناضل الراحل فرانس فانون لـ"المساء” عن أهمية التاريخ والذاكرة للأجيال وضرورة استثمارها وتقديمها للشباب كي لا ينفصل عن هويته وماضيه، وهنا تساءل عن غياب نصوص والده في المنظومة التربوية على عكس الماضي، حيث كانت مقرّرة في البرامج وحتى في أسئلة امتحانات البكالوريا داعيا إلى ربط الجيل مع هؤلاء الذين تركوا بصمتهم في تاريخ الثورة والجزائر وبأساليب تتلاءم ومتطلبات تغيّرات الراهن كي يتقبّل النشء هذا التاريخ.

بالنسبة لكتابة التاريخ، يرى المتحدّث أنّه يجب أيضا الالتفات إلى التفاصيل التي لها أهميتها ووقعها في نفس المتلقي، ففي الماضي غالبا ما كانت تقدّم الأحداث الكبرى دون التركيز على التفاصيل أو “الإنسانيات” مثلا، وهي مواقف لها مكانتها في سجل التاريخ الوطني وقادرة على أن تجلب أكثر وتؤثّر على من يطّلع عليها، وهنا استشهد بحياة والده فرانس فانون ويومياته في مستشفى الأمراض العقلية بالبليدة، حيث عاش مع الجزائريين البسطاء وأصبح واحدا منهم وتأثّر لأوضاع المرضى الذين عوملوا كالسجناء، وحين جاءت لحظة الاختيار اختار فانون في 1957 الجبل وكافح مع إخوته الجزائريين وتخلى عن فرنسا.

التاريخ في هذه الحالة وغيرها لا يذكر فقط إنجازات ومواقف فانون الفكرية والسياسية بل أيضا تفاصيل وهوامش الأحداث حتى في أثناء اليوميات العادية وهو اتجاه، حسب محدّث “المساء”، لا بدّ له من التعزيز من ذلك مبادرات فانون أثناء عمله في البليدة كبناء مسجد للمصلين وإحياء المولد النبوي الشريف وكذلك الحفلات والدعم المادي والنفسي للمحتاجين وغيرها، والأهم أنّه كان هو نفسه في قناعاته ويومياته بمعنى أنّه يطبّق أفكاره على أرض الواقع، ولم يكن منافقا تناقض تصرّفاته خطاباته وهو درس، على أجيال اليوم، أن تتعلّمه كما تتعلّم التاريخ، كما كان فانون يوصي الجزائريين بأن يظلوا متمسّكين بمبادئ الثورة وأن لا يتحوّل بعضهم “كولونا”.

قال أوليفيي إنّه إلى اليوم يسأله الجزائريون عن بعض تفاصيل والده، قد لا تكون موجودة بدقة في تأريخ حياته، وهو ما يتطلّب تعمّقا أكثر وإلماما بعملية التأريخ التي لا يجب، في نظره، أن ترتبط فقط بالجانب الأكاديمي والكلاسيكي مذكّرا بمساعيه هو أيضا للحفاظ على ذاكرة والده من خلال فيلم تسجيلي عنه يبث نوفمبر القادم وطبعا فكلّ ما سبق ينطبق أيضا على شخصيات تاريخية وأحداث أخرى في تاريخنا الوطني الحافل.

الدكتور لخضر سعيداني: تعميق دور الشهادة الشفوية في كتابة تاريخ الثورة

من جهته، يرى الدكتور لخضر سعيداني، أستاذ التاريخ بجامعة تيسمسيلت، ورئيس الجمعية التاريخية أصدقاء باب البكّوش بلرجام، أنّ التحدي الجديد لكتابة التاريخ الوطني في شقّه المحلي هو تعميق وترقية دور الشهادات الخاصة بالمجاهدين واستغلالها في كتابة التاريخ، انطلاقا من التكوين النظري في مجال التاريخ الشفهي وصولا إلى إعادة رقنها دون الإبقاء عليها في أدراج الأرشيف ثم توزيعها على مختلف المؤسّسات المعنية، كما يضيف الدكتور سعيداني أنّه من المهم جدّا مقارنة هذه الشهادات مع مختلف صنّاع الحدث في منطقة جغرافية واحدة، إضافة إلى فتح تخصّصات ومخابر بحث تعنى بالتاريخ المحلي في جانبه الشفهي وإقامة ملتقيات وندوات في هذا المجال، كما هو الشأن بالنسبة للتظاهرات التي نظّمتها وزارة المجاهدين وذوي الحقوق حول استغلال الرصيد السمعي البصري للشهادات الحية في هذا المجال.

تسمح الشهادة الشفوية للمجاهدين، حسب الدكتور سعيداني، الذي سجّل العديد من شهادات المجاهدين بمنطقة الونشريس، كان آخرها تسجيل شهادة المجاهدة فاطمة بن عبو (فيروز) زوجة المجاهد الرائد سي طارق، من الاطلاع على تفاصيل محلية جزئية مرتبطة ببداية تنظيم العمل المسلح وظروف الالتحاق بالجبل ويوميات المجاهدين والمصالح الملحقة للثورة وطرق التكوين العسكري والسياسي لجيش وجبهة التحرير الوطني ودعم الأهالي للثورة والتعامل مع السياسة الاستعمارية ومعنويات الكفاح والتعامل اليومي مع ظروف الحرب وصولا إلى معايشة الاستقلال وذلك من خلال تطبيق مناهج الاستفادة من التاريخ الشفوي في كتابة التاريخ الوطني.

الأستاذ محمد بوعزارة: التاريخ بمنظور وطني شامل لا يقبل التزييف

أكّد الإعلامي والبرلماني الأسبق الأستاذ محمد بوعزارة لـ"المساء” أنّنا عشنا خلال حقبةٍ ماضية من تاريخ الجزائر ما يمكن أن نصطلح عليه بالعبثية بالتاريخ، فقد تحوّل بعض المراهقين في علم السياسة وبعض العبثيين، وحتى بعض المخربشين في التاريخ إلى زرع (ثقافة) التشكيك في تاريخ هذا الوطن، وفي بعض الرموز الوطنية وقادة المقاومات المختلفة وحتى ثورة أوّل نوفمبر، كما شكّك البعض في عدد من الحقائق الوطنية، وقد أعطى هؤلاء العبثيون الفرصة لبعض الأبواق والقوى الخارجية الحاقدة على تاريخ الجزائر للتطاول على تاريخنا المجيد، حتى وجدنا الرئيس الفرنسي الحالي ماكرون يلتحق بهذه الجوقة العبثية، فيشكّك مثل أسلافه الاستعماريين في تاريخنا، بل وفي وجود دولة جزائرية، متناسيا أنّ الدولة الجزائرية أنقذت فرنسا أكثر من مرة من الاعتداءات الأوروبية المتكررة عليها، مثلما أنقذت فرنسا من المجاعة وأمدّتها بقروض مالية معتبرة قبيل الاحتلال.

يقول محدّث “المساء” إنّه ركّز “في مختلف محاضراتي ونقاشاتي في أكثر من جامعة أو مركز ثقافي على المسألة التاريخية لأنّ الاستخدام الجيّد والموضوعي للتاريخ يعدّ بمثابة الإسمنت لوحدة الأمة، في حين أنّ أيّ عبث بالتاريخ من شأنه أن يكون عامل زعزعة لاستقرار الشعب واستقراره، لذلك وجب النأي عن كلّ ما من شأنه أن يسيئ إلى تاريخ الجزائر عبر مراحله المختلفة، وخاصة فترة ما قبل الاحتلال الفرنسي وأثناءها، وإلى تاريخ العديد من الشخصيات الوطنية وشخصيات المقاومة التي تصدّت بالسلاح والفكر وبوطنيتها العالية للاستعمار وألاعيبه، وقد استخدمت مجموعة من المصطلحات من بينها “رفض العبثية بالتاريخ” و"عدم قراءة تاريخ الجزائر بربع عين “وأيضا “الخوف من التاريخ والخوف على التاريخ”.

أصدر الأستاذ بوعزارة في 2016 كتابا بعنوان “فن العبث بالتاريخ”..تناول فيه ظاهرة التطاول على التاريخ من طرف من هم أبعد الناس لا عن التاريخ فقط، بل عن ماضي الجزائر وعن واقعها، ويشير “خلال عام 2015 أصدر الصحفي الفرنسي من أصل جزائري رشيد أرحاب كتابا بعنوان *لماذا لم نعد نراك “، روى فيه تجربته في الإعلام السمعي البصري بفرنسا وعلاقاته مع الطبقة السياسية الفرنسية ومع النخبة، ثم راح يتحدّث عن بعض الوقائع التاريخية في الجزائر في أسلوب عبثي هو أبعد ما يكون عن حقائق التاريخ، وكنت قد ألقيتُ محاضرة في المركز الثقافي الجزائري بباريس قدّمت فيها منظوري لكتابة التاريخ وخصوصا بأقلام جزائرية من مؤرّخين ومهتمين بالتاريخ، أقلام تستند إلى الحقائق التاريخية بعيدا عن التقديس الذي يتنافى وعلم التاريخ وبطريقة موضوعية، وبعيدا عن العبثية التي هي أسلوب هواة الإثارة والتهريج، وأوضحتُ أنّ التاريخ مثل القنبلة لا يجب العبث به ولا التلاعب بحقائقه، وتبع ذلك مناقشة ثرية مع الحضور، ثم قام ثلاثة من المثقفين والجامعيين الجزائريين الرائعين من بينهم الشاعرة الجزائرية لويزة ناظور والدكتور جمال بن كريد بقراءة في مضمون هذا الكتب وكذا كتابي “في الثقافة بعيدا عن أوجاع الربيع الزائف”.

وأشار المتحدّث إلى أنّ ما يؤمن به هو أنّ التاريخ لا يجب أن يُقَدَّمَ بما اصطلح عليه بربع عين، بل بعين كاملة متفحّصة، عينٍ تدقّق في الحقائق التاريخية سواء كانت مكتوبة عبر وثائق أو مخطوطات، أو مسجّلة أو شفاهية من طرف بعض صانعي تلك الأحداث أو من كانوا من الشهود أو الرواة الثقاة. وهنا يضيف “فقد لاحظت أنّ البعض بات يسجّل بعض الأحداث عبر السماع الشفهي دون أن يستند إلى حقائق تاريخية، الأمر الذي من شأنه أن يؤدي إلى تقديم معلومات مغلوطة بدلا من ذكر حقائق تستند إلى وثائق لا تقبل الجدل ولا التشكيك في صحتها”.

الإشكال القائم، حسب بوعزارة، هو أنّ هناك بعض الأشخاص حاولوا أن يقزّموا تاريخ منطقة على حساب منطقة أخرى، متجاهلين مختلف الوقائع التاريخية، مقدّمين منظورا شخصيا للتاريخ بناء على فهم جهوي لا يمت للتاريخ بصلة سواء برموزه الوطنية أو بأحداثه ووقائعه الجامعة والموحِّدة للأمة  . ليفسّر “فإذا كان بعضهم وانطلاقا من جهلهم للتاريخ قدّموا الأمير عبد القادر بشكل مغاير للصورة التي عُرف بها، فقد أحدث ذلك لدى البعض نوعا من التشكيك في هذه الشخصية الوطنية الفذة التي كان من بين خصالها الوطنية أنّها أعادت التأسيس للدولة الوطنية الجزائرية وأقامت مصانع حربية لمواجهة العدو، وأنّ مقاومتها لم تكن ذات بعد محلي ارتكز على الغرب الجزائري وحده، بل إنّ مقاومة الأمير كانت ذات بعدٍ وطني بدليل أنّها امتدت لمختلف جهات الوطن، وكان يقود تلك المقاومة ثمانية نواب للأمير من مختلف أنحاء الوطن الجزائري، شرقا وغربا، شمالا وجنوبا، ثم إنّ من يدّعون أنّ الأمير استسلم لفرنسا، يتجاهلون أو هم يجهلون الخديعة التي طالت الأمير من نظام الجار الغربي، وهي الخديعة التي جعلت الأمير يؤكّد بصريح القول “إنه لولا خديعة سلطانِ المغرب ما سلّمتُ سلاحي لعدوي”.

سرد المتحدّث المقاومات التي خاضها عدد من المقاومين الجزائريين الآخرين لم تأخذ بعدا وطنيا فقط، ولكنها نهجت بعدا مغاربيا، كما هو الشأن بالنسبة للبطل الناصر بن شهرة ورفيقه محمد الكبلوتي اللذين نقلا مقاومتهما ضدّ المحتل من التراب الجزائري إلى عمق التراب التونسي، فاتّخذت مقاومتهم مع المقاومين التونسيين والمهاجرين الجزائريين إلى تونس بعدا مغاربيا جزائريا تونسيا، وهذا ما جسّدته لاحقا ثورة أوّل نوفمبر التي كان هدفها تحرير الشمال الإفريقي كلّه من الاحتلال، رغم الضربات التي كانت الثورة تتلقاها من حين لآخر في الظهر، لكن عبقرية قادة الثورة، يضيف المتحدّث، استطاعت أن تتجاوز كلّ المؤامرات بحكمة كبيرة وبرفض واضح لكلّ تدخّل في الشأن الداخلي للثورة .

انطلاقا من هذا المنظور الوطني في قراءة البعض للتاريخ وللحيلولة دون قلب وتزييف حقائق التاريخ الوطني، فإنّ الأجيال الحريصة على تاريخ الجزائر باتت تتخوّف الآن مما يلحق بتاريخ بلادها وتطرح بذلك منظورا لتأسيس مدرسة وطنية جزائرية، لتقديم تاريخ هذا الوطن بمنظور وطني شامل، يجعل من هذه الأجيال ومن الأجيال المقبلة تُقبل على قراءة تاريخ الآباء والأجداد بكلّ فخر واعتزاز، ولا ترفع ذلك الشعار الذي ردّده بعض طلبة ثانويات الوطن في مطلع ثمانينيات القرن الماضي بتحريك من دوائر أجنبية “التاريخ في المزبلة”، مع الملاحظ أنّ ذلك الشعار رُفع في نفس الوقت الذي قرّر فيه ميتران رئيس فرنسا تلك الفترة ووزير داخليتها مع بداية الثورة أن يجعلوا من عام 1983 عام التاريخ في فرنسا..

ختم بوعزارة القول بـ"فلتكن أعوامنا كلّها أعواما للتاريخ وللذاكرة الوطنية التي تجعل من الوطنية جدارا لحماية الوطن من أعدائه وممن لا يعرفون أنّ التاريخ ليس مجرد دراسة للماضي ولكنه علم المستقبل وصمام أمان للشعوب”.