وُلدت من قلب الثورة وروائعها باتت ميراثا إنسانيا
السينما الجزائرية ملفوفة بوشاح الذاكرة
- 77
❊ سجّلت شهادة ميلادها في ساحات المعارك وتحوّلت إلى دفتر للتاريخ ينطق بالصوت والصورة
❊ ارتبطت بقيم المقاومـة والتحرّر
ظهرت السينما في كلّ دول العالم في مواقع التصوير وفي الاستوديوهات، بينما تفرّدت في الجزائر بكونها ولدت من قلب الثورة التحريرية مرافقة المعارك والانتصارات والآلام ومعبرة عن شعب يحلم بالحرية. كان السينمائيون في غالبيتهم جنودا ومناضلين عبروا بالكاميرا الحدود الشائكة وسجّلوا قَنبلة القرى وإحراق الأخضر واليابس، ووَثَقوا أحداثا ومنعرجات مهمة من مسيرة الثورة ورجالها. .بقيت الكاميرا بندقية تقصف الدعاية الفرنسية وتكشف للعالم ما يجري في حقّ شعب أعزل، ليتواصل هذا الالتزام نحو القضية من خلال إحياء الذاكرة وهو ما تجلى مباشرة بعد الاستقلال، حيث توالت الروائع التي أعادت للجزائريين ما كان من ويلات ليل الاستعمار، ليمتدّ بعدها هذا الالتزام نحو الذاكرة إلى أجيال أخرى صاعدة قدّمت بدورها نماذج أخرى لهذا التراث الثوري، وبقيت السينما الجزائرية ولا تزال ملفوفة بوشاح الذاكرة الذي تميزت به عن باقي السينمات العربية والعالمية، وظلت بعض روائعها ميراثا إنسانيا انبهر به المثقفون وأحرار العالم، كما بقيت إدانة لكل ظالم استباح حقوق البشر . من كل ما تقدم هل يمكن القول إنّ للسينما فضل على الثورة، أم هي الثورة التي جعلت من الكاميرا ترى بأم عينيها وقائع "سنوات الجمر" التي احترق بها شعبنا الأبيّ.
سجّلت السينما الجزائرية شهادة ميلادها في ساحات المعارك، تلطّخت عدستها بغبار وأوحال مسالك الجبال الشاهقات وتلطّخت بدماء الجزائريين لذلك كانت أصدق نبأ من أيّ كلمة أو خطبة عصماء، لتتحوّل إلى دفتر للتاريخ ينطق بالصوت والصورة، ويعيد للذاكرة الجماعية أحداثا غير قابلة للنسيان، ستبقى ما بقي الزمان شعاعا لكلّ طالب حقّ ولكلّ أحرار العالم.
ارتبطت الذاكرة ومسيرة شعب أعزل بالسينما الجزائرية ما أكسبها التزاما خاصا ومكانة تتعدى الترفيه وقصص الخيال المبهرة، الأمر الذي كتب لها العمر الطويل لتصنّف في الروائع الصالحة لكلّ زمان ومكان. وارتبطت السينما الجزائرية ولا تزال بقيم المقاومـة والذاكـرة والتحرّر، ما أعطاها شرعية تناول القضايا العادلة عبر شاشتها الفضية وبأسماء كانت بالأمس تدافع عن القضية الجزائرية، لذلك فليس من الغريب مثلا أن تقدّم الجزائر ومنذ سنواتها الأولى من عمر استقلالها أعمالا عن فلسطين وعن لبنان وأيضا الفيتنام.
سينما الواقع المعيش
ما يقال عن التجربة السينمائية الجزائرية إنّها ثرية رغم أنّ الكثيرين يرون تقصيرا في غزارة الإنتاج وفي تناول المزيد من ذكريات ووقائع الثورة والتاريخ الوطني عموما . وما يلاحظ، حسب من تابعوا مسيرة الفن السابع الجزائري، أنّ السينما الجزائرية استطاعت أن تصوّر تفاصيل الواقع دون اللجوء إلى الخدع السينمائية ووسائلها في رسم الأبطال، فكانت سينما من الواقع المعيش وبأبطال هم من صميم البيئة التي يقدّمها سيناريو الفيلم كما كان الحال مثلا مع فيلم "نوّة"، ولم يكن السينمائيون سوى جنود ومجاهدين حملوا أرواحهم على أكتافهم، لا تهمّهم الشهرة ومجد الفن ولا النجومية بل كان تأدية رسالة نحو وطنهم وشعبهم المكافح.
استطاع السينمائيون المُجاهدون إنجاز العشرات من الأفلام القصيرة التي تصوّر معارك ثورة التحرير، إضافة إلى حوالي عشرة أعمال تمتلك مقوّمات الفيلم السينمائي منها "اللاجئون" و"الجزائر المُلتهبة" و"ساقية سيدي يوسف" و"جزائرنا" و"عمري ثماني سنوات" و"ياسمينة" و"صوت الشعب" و"بنادق الحرية" و"خمسة رجال وشعب" وغيرها من الأفلام التي صٌوّرت أثناء الثورة، علما أنّ نسخ (النيغاتيف) للأفلام المُصورة كانت تُهرّب إلى خارج الجزائر، لاستكمال العمليات التقنية.
لم ينل الجزائريون أيّ فائدة تقنية أو فنية تذكر من الصناعة السينمائية الغربية والأفلام التي تمّ إنجازها في الجزائر، ويذكر أنّ المُخرج جمال شندرلي حصل بطرقه الخاصة على بعض المُعدات التلفزيونية، وأنشأ وحدة إنتاج سينمائي في مغارة بأحد الجبال، وقام بتدريب وتأهيل مجموعة من المُجاهدين حتى وصلوا إلى مستوى من الاحترافية في التصوير والإخراج.
كان الفيلم الوثائقي في السينما الجزائرية، منذ نشأتها وعبر مسيرتها، سلاحا فعّالا لتحقيق هدفين رئيسيين، الأوّل العمل على نقل الواقع الفعلي وتوثيق الأحداث والوقائع التي شهدها الصراع ضدّ المستعمر الفرنسي من جهة، وهذا الأمر لم يكن يقتضي أيّ ميكانيزم للحيل السينمائية أو ترتيبات، فالسينمائيون كانوا شهودا على لحظات وأحداث الكفاح المسلّح، ومن ثمة فهو إعلام دون تشويه للواقع، ودون عمل دعائي يضخم ويقزم، ويحذف ويضيف، وفي مرحلة تالية كان لا بدّ من استخدام الفيلم الوثائقي السينمائي كسلاح للدعاية الثورية في أوساط الجماهير الشعبية من جهة، والعمل على صناعة رأي عام عالمي يتبنى القضية الجزائرية ويدافع عنها في المحافل الدولية من جهة ثانية، وهذا كان يقتضي إخضاع المادة السينمائية إلى عملية بناء وتركيب من أجل التأثير في المتلقين.
قامت الثورة حينها بتأسيس وحدة سينمائية ضمّت مجموعة جزائريين نالوا تكوينا لا يتجاوز العامين في بعض الدول الصديقة للثورة الجزائرية، من أمثال محمد الأخضر حامينا، محمد سليم، رياض سليم، وعلي جنادي، ثم أسّست الحكومة المؤقتة الجزائرية، سنة 1960، مصلحةَ السينما ومدرسة التكوين السينمائي في المنطقة الخامسة بالولاية الأولى، وكان المُشرف عليها روني فوتيي وهو سينمائي فرنسي التحق بصفوف جيش التحرير الوطني.
"معركة الجزائر".. التفاؤل الثوري الغنيّ
كتب المُفكّر الفلسطيني إدوارد سعيد، عن لقاء جمعه مع جيلو بونتيكورفو بعد عشرين سنة من إخراج "معركة الجزائر" "سألته.. ما الذي يروق له، بعد عشرين عاما، في "معركة الجزائر"..؟ فقال "إنه البناء السيمفوني، والقوة الأوركسترالية في الفيلم، الذي ينبثق فيه كفاح شعب قمع طويلا من أجل الحرية مثل تيار عظيم، حتمي، وظافر، ولا مردّ له".
وعن قيمة الفيلم والجوائز التي حصدها، قال ادوارد سعيد "إنّ "معركة الجزائر" فيلم جدير بالمكانة التي احتلها في السينما العالمية، ليس لأنّه صوّر انتصارا حديثا ومثيرا للثورة على واحدة من أقدم الإمبراطوريات وحسب، وإنّما أيضا لأنّ روحه مفعمة بالتفاؤل الثوري الغنيّ.. فثوّار ثورة التحرير الوطني لا يكسبون في الفيلم، لكن الشعب الجزائري ينتفض ثانية، بعد ثلاث سنوات من معركة الثوار في القصبة عام 1958، وبونتيكورفو يسجّل الانتصار اللاحق بروح غنائية وخلاصية، في واحد من أبرز مشاهد الحشود أو المجاميع التي عرفتها السينما، منافسا آيزنشتاين في قدرته على التحكّم، والتي تكاد تكون شبيهة بالقدرة التي تبدو في رقص البالِيهْ، وهو يظهر كيف أنّ الثوّار الذين قتلهم الفرنسيون يواصلون الحياة على رغم ذلك بسبب من ذكائهم، والتزامهم...".
أشار بعض متابعي مسيرة السينما الجزائرية إلى أنّه رغم حداثتها، فقد استطاعت أن تحتل مكانة عالمية مرموقة، خلال عقدين من الزمن بعد ولادتها الأولى، وتستقطب انتباه النقّاد والدارسين والمُشاهدين، وتنال أكبر الجوائز العالمية، وذلك بفضل شبابها الذي تسلّحوا بقيم التحدي ومغالبة الصّعاب، وتغذّوا بكلّ ما في ثورة التحرير الوطني من بطولات وأمجاد وقيم إنسانية وأخلاقية. بالإضافة إلى خصوصية السينما الجزائرية التي ولدت في "اللّهب المُقدّس"، وهذا الأمر بحدّ ذاته يمثّل قيمة كبرى يجب أن يعِيها ويستوعبها كلّ السينمائيين الجزائريين من مختلف الأجيال.
"الشعب هو البطل".. قوّة عالمية ومرجع للشعوب المُناضلة
إنّ اِشتغال السينما الجزائرية على الثورة الجزائرية جاء من خلال التوجّهات الإيديولوجية التي رسمتها الدولة آنذاك وهي بناء الدولة الوطنية التي تقوم على الشرعية الثورية، ما تطلّب التركيز على خلق رموز للثورة وتخليد المآثر التي قام بها المجاهدون والشهداء الذين ضحوا من أجل هذا البلد والتركيز في العموم على الشعب الذي يعتبر البطل الحقيقي لثورة التحرير. ففكرة "الشعب هو البطل"، كما وصفها أحد النقّاد، منحت الثورة قوّة عالمية وجعلتها مرجعا للشعوب المُناضلة من أجل حريتها، يموت الأبطال وينتصر الشعب وهو القيمة الإنسانية التي ترسّخت بقوّة في السينما الجزائرية، ما يحسب لها.
مرّت السينما الجزائرية بمراحل مختلفة تنوّعت فيها الموضوعات وعرفت أجيالا من المُخرجين والمُمثلين، لكنها حافظت على ارتباطها الوثيق بثورة التحرير الوطني، فقد كانت أغلب الأفلام تنهل من الرصيد التاريخي الثوري. هكذا كان لكلّ مرحلة جيلها السينمائي، رغم حصة الأسد التي عادت لجيل السينمائيين الثوّار، لتبقى السينما رافدا فعّالا في بناء الشخصية الوطنية، ووسيلة لتعميق الوعي، ظلّت عندنا تحت عباءة التاريخ والتراث والأدب والواقع، علما أنّ الجزائر تمتلك سينما لها مميزاتها التي تنفرد بها عن أيّ سينما أخرى في العالم، وأيضا إنّها سينما حقّقت مكانتها العالمية من خلال حصولها على جوائز عالمية لم تحصل عليها أيّ سينما عربية حتى الآن وبفيلم عن التاريخ والمقاومة أثناء الاستعمار الفرنسي، وهي تسعى دوما لتجديد روحها في البطولة والثورة.
تبقى علاقة السينما بالتاريخ علاقة أخذ وعطاء فالسينما تحوّل الحدث التاريخي لذاكرة سمعية بصرية في حين أنّ التاريخ يزوّد السينما بالمواضيع.
عموما بإمكان الخطاب السينمائي المحافظة على الذاكرة بكلّ مكوّناتها اليوم كما أمس، ويمكن أيضا النظر إلى السينما على أنّها فن ووسيلة تعبير تقوم بإعادة إنتاج وخلق عناصر تمثيلية جديدة للذاكرة الثورية، والمساهمة في إدراك وفهم ونقد ديناميكية الواقع التاريخي، بفضل الذاكرة المرئية والسمعية للفيلم.
ظلّ متمسّكا بقناعاته وبوفائه لثورة شعبه
لخضر حامينة.. المخرج الأيقونة
يمثل المخرج لخضر حامينة ابن الفلاح الشهيد وابن الأرض نموذجا للالتزام نحو الثورة الجزائرية التي رافق أبطالها في الجبال حاملا الكاميرا فوق أكتافه، وبقي إلى اليوم وفيا لهذه الذاكرة التي منها استشهاد والده، واستطاع بتمكّن أن يوصل كفاح شعبه للعالم عبر مختلف المحافل، وتفرّد بالسعفة الذهبية وبتتويج "كان" الذي أغلق بابه العريض بعدها ولم ينل أيّ عربي ما ناله.
قدّم محمد الأخضر حامينة أكثر روائع السينما الجزائرية، ابتداء من "ريح الأوراس" وصولا إلى "غروب الظلال"، وعبر عقود من الزمن ظلّ هذا المخرج الأيقونة متمسكا بقناعاته وبوفائه لثورة شعبه، بل ازداد إيمانا بحقّ الشعوب في نيل الحرية والانعتاق والتشبّث بأرضها وهويتها، ما عزّز في أعماله البعد الإنساني وجعل أفلامه تتعدى التوثيق والذاكرة إلى النضال والقيم التي لا يغيّرها الزمان ولا المكان، كما جعل ذلك منه علامة سينمائية ورمزا استحق التتويج والاحترام .
يوصف حامينة بكونه "المخرج المتمكّن من التقنية الفنية، والخبير الحاذق بعوالم السينما"، ولد يوم 26 فيفري 1934 بالمسيلة، بعد سنوات من دراسته الأولية انتقل إلى دلس لدراسة مبادئ الصناعة، ثم انتقل إلى ولاية قالمة لدراسة الزراعة. انتقل بعد ذلك إلى فرنسا واستقر في "إكس أون بروفنس" لدراسة العلوم القانونية، ليجنّد بعد ذلك في الجيش الفرنسي، لكنه تمكّن من الفرار ليلتحق بمسؤولي الإعلام في الحكومة الجزائرية المؤقتة بتونس عام 1959.
ظهرت موهبته السينمائية خلال تكوين سريع في قسم الأخبار بالتلفزة التونسية، بعد ذلك أُرسل إلى براغ من طرف الحكومة المؤقتة لدراسة السينما، لكنّه لم يكمل دراسته، وقرّر العودة إلى تونس لمباشرة العمل الميداني بتصوير أفلام وثائقية عن ثورة التحرير الجزائرية. ترأس حامينة الديوان الجزائري للأخبار الذي أسّس عام 1963، واستمر في منصبه إلى غاية 1974 حيث تقرّر إلحاق الديوان الجزائري للأخبار بالديوان القومي للتجارة السينماتوغرافية، ليتفرغ بعدها لعمله السينمائي.
يحمل حامينة صفات نموذج المخرج العالمي، ويصنّف مع كبار أسماء الفن السابع، استلهم إبداعه من خصوصيته الجزائرية ومن ذكرياته الشخصية، محوّلا تلك الذكريات إلى أعمال سينمائية رفيعة المستوى، لاقت التصفيق والإعجاب عبر المحافل الدولية الكبرى.
قام بتصوير (في الجبال ومن ساحات المعارك) وإخراج بعض من الأفلام الوثائقية عن حرب التحرير الجزائرية مثل "صوت الشعب"، و"بنادق الحرية" الذي أخرجه برفقة جمال الدين شندرلي سنة 1962، كما قام خلال ترأسه للديوان الجزائري للأخبار بعد الاستقلال بإخراج عدّة أفلام وثائقية قصيرة أهمها "النور للجميع"، "وعود جويلية" و"البحث عن اللوم" (1963)، و"يوم من نوفمبر" (1964). وكان أوّل أفلامه الطويلة بعنوان "ريح الأوراس" عام 1966، ثم فيلم "حسان الطيرو" عام 1968، ثم فيلم "ديسمبر" في عام 1973.
حاز فيلمه الأوّل "رياح الأوراس" (1966) على جائزة الكاميرا الذهبية في مهرجان كان، وجائزة أفضل سيناريو في موسكو، وجائزة الغزال الذهبي في مهرجان طنجة بالمغرب عام (1968).
قدّم أهم أعماله السينمائية ويتعلّق الأمر بفيلم "وقائع سنين الجمر" الذي قام بكتابته وإخراجه وتمثيله ونال عنه جائزة السعفة الذهبية بمهرجان كان السينمائي(1974)، وهو من أهم وأضخم الأفلام التاريخية التي نجحت خارج هوليوود، كما وصفها بعض النقّاد، ليصبح من علامات السينما ورائدا ونموذجا لسينما العالم الثالث التي كانت في طور التأسيس أو التجديد.
بعد غياب استمر لنحو ثلاثين سنة عاد في 2014 بعرضه لفيلمه الجديد "غروب الظلال" علما أنّه رفض ترشيح الفيلم في مهرجاني "كان" و"البندقية" فيما تم ترشيحه لجوائز الأوسكار 2016.