الدولة الاجتماعية مرتكز السياسة الاقتصادية
معادلة "التنمية والدعم" محرك لبناء اقتصاد يحقق مبادئ الثورة
- 1711
عملت الدولة الجزائرية منذ الاستقلال على تجسيد مبادئ بيان أول نوفمبر، الذي كان بمثابة دستور الثورة المجيدة، وهو ما انعكس على السياسات الاقتصادية التي تبنتها الحكومات المتعاقبة، والتي تقوم على أساس تحقيق “الدولة الاجتماعية” التي تتساوى فيها كل فئات المجتمع، مع الحرص على ضمان سيادة القرارات الاقتصادية الوطنية.
عرفت السنوات الأولى من عمر الجزائر المستقلة، بذل جهود كبيرة من السلطات العليا للبلاد من أجل تنمية الاقتصاد وتوفير الرفاه للمواطنين، في ظل صعوبات كبيرة واجهتها بسبب الأوضاع الموروثة عن المستعمر، والتي كانت تتطلب إعادة التحكم في العديد من المجالات على رأسها الاقتصاد الوطني، وتأكيد قدرة كفاءاتها المشبعة بالوطنية على رفع تحدي استرجاع السيادة على كل القطاعات، وإبقاء البلاد واقفة.
ولأن الاقتصاد يعد عصب بناء الدول، فإن السياسة المنتهجة بعد الاستقلال كانت تحمل هم الشعب، ضمن نهج اشتراكي حتمته عقيدة الثوار الذين حاربوا فرنسا الاستعمارية ومعها عقيدتها الامبريالية الخاضعة للرأسمالية متوحشة.
وفي 24 فيفري 1971 أعلن الرئيس الراحل هواري بومدين عن تأميم المحروقات من حاسي مسعود، استكمالا لمسار طويل من المفاوضات، تم الشروع فيه سنة 1967 من أجل استرجاع الثروات الوطنية، لاسيما باسترجاع فوائد الشركات الكبرى المتعددة الجنسيات مثل "بريتيش بيتروليوم" و"ايسو" و"شال" و"موبيل" بالجزائر، وتبعها أمر وقع بتاريخ 11 أفريل 1971 بصدور القانون الأساسي حول المحروقات، الذي حدد الإطار الذي من المفروض أن يجري فيه نشاط الشركات الأجنبية في مجال البحث عن المحروقات واستغلالها.
ويتذكر كل الجزائريين الذين عايشوا تلك الحقبة الخطاب التاريخي للرئيس الراحل هواري بومدين، حين نطق عبارته الشهيرة "قررنا تأميم المحروقات"، في مرحلة كان فيها الصراع العربي الإسرائيلي في أوجه.
وبموجب هذا القرار، أصبحت الجزائر تحوز على 51 بالمائة على الأقل من فوائد الشركات المكتتبة الفرنسية التي تعمل في الجنوب مثل "سي أف بي ا" و"بيتروبار" و"أس أن بي ا"و"كوباراكس" وغيرها. كما تم في ذلك اليوم المصادف للذكرى 15لإنشاء الاتحاد العام للعمال الجزائريين، تأميم جميع الفوائد المنجمية المتعلقة بحقول الغاز الطبيعي وكذا كل الفوائد المحصلة من طرف شركات نقل المحروقات.
ولم يكن استرجاع السيادة على الثروات الوطنية مجرد "فرقعة إعلامية"، بل كان بداية لمسار التصنيع الذي تكلل بدخول الجزائر عصر الصناعات الثقيلة، لاسيما في مجال الحديد والصلب الذي اعتبر في وقتها قاطرة وقاعدة لصناعات استراتيجية أخرى، لاسيما الميكانيكية والإلكترونية والكهربائية والتحويلية منها.
وأطلق الرئيس هواري بومدين حينها مشروع الثورة الصناعية، المتمثل في تطوير الصناعات التي تسعى إلى استغلال الموارد الطبيعية، معتمدا على استيراد المصانع من الدول الاشتراكية السابقة على غرار يوغسلافيا والاتحاد السوفياتي، مع مرافقتها بالثورتين الزراعية والثقافية.
ووافقت هذه السياسة رؤية يمكن القول إنها كانت استباقية بالرغم من بعض النقائص المسجلة في تطبيقها، لأن الجزائر أدركت مبكرا أهمية تحقيق السيادة الاقتصادية الوطنية من خلال تحقيق الاكتفاء الذاتي، وتحويل مواردها إلى سلع ومنتجات جاهزة، تسمح لها ببناء اقتصاد قوي ومستقل.
وانعكست هذه السياسة ايجابا على معيشة المواطن بالأساس، من خلال توفير فرص التعليم والعلاج المجانية، وفتحت أبواب التشغيل لآلاف الشباب بفضل المصانع التي تم انشاؤها في كل أنحاء الوطن وكانت وماتزال فخرا للصناعة الجزائرية.
وفي سنوات الثمانيات والتسعينات، أجبرت الحكومات المتعاقبة على الجزائر خلال تلك الفترة على تغيير توجهاتها الاقتصادية والذهاب تدريجيا نحو اقتصاد السوق، وما تبعه من خوصصة لبعض للمؤسسات العمومية وتراجع في بعض المكتسبات الاجتماعية بسبب ضغوط صندوق النقد الدولي الذي فرض حينها سياسة إعادة الهيكلة على الجزائر، تسببت في غلق بعض المصانع وتسريح عمالها.
ولاشك في أن الصعوبات التي جرها اللجوء إلى المؤسسات المالية النقدية، بقي راسخا لدى المسؤولين الذين عملوا في الفترات اللاحقة على تفادي الوقوع مجددا في فخ الاستدانة الخارجية وشروط “الأفامي” القاسية، وهو ما يبرر اللجوء إلى تسديد كل الديون الخارجية في ظل البحبوحة المالية التي سجلت خلال السنوات الأولى من القرن الحالي، اضافة إلى الاقدام على إنشاء صندوق ضبط الإيرادات الذي خصص لادخار عائدات النفط، وتضمن الإيرادات المحسوبة من الفارق بين سعر النفط المرجعي للبرميل عند إعداد الموازنة السنوية، وسعر السوق حيث يباع الخام فعليا.
ومكنت هذه التدابير من إخراج الاقتصاد الجزائري من حالة “الإنعاش” إلى حالة “الانتعاش”، وعادت النفقات العمومية بشكل تدريجي لتتوجه نحو تحقيق التنمية الاقتصادية والرفاهية الاجتماعية للشعب، لكن بطريقة جديدة اصبحت تعتمد أكثر فأكثر على فتح أبواب الاستثمار الخاص الوطني والأجنبي، مع تركيز النفقات العمومية على انشاء البنى التحتية، حيث شهدت الجزائر طفرة نوعية في هذا المجال، جعلتها تحقق مراتب متقدمة جدا في تقارير التنمية البشرية العالمية.
لكن تراجع البلاد في التصنيف العالمي المتعلق ببيئة الأعمال، كان بمثابة العائق أمام استقطاب الاستثمارات الأجنبية المباشرة، خاصة في ظل الأزمات التي توالت على العالم منذ 2008 والى غاية اليوم.
وهو الأمر الذي تم استدراكه خلال الفترة الأخيرة، وذلك بإصدار قانون جديد للمحروقات من جهة، وآخر للاستثمار من جهة أخرى، وما تبعه من تعديلات في عدة قوانين اقتصادية، حيث عملت الحكومات المتعاقبة منذ 2019 تاريخ انتخاب رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون، على تجسيد التزاماته التي قطعها على نفسه في حملته الانتخابية، والتي تضمنت مراجعة العديد من التشريعات والنظم التي تسير مختلف القطاعات، إدراكا منه بضرورة معالجة المرض من جذوره.ويعد المحور الاقتصادي أساسيا في برنامج الرئيس تبون، الذي بدأ عهدته الانتخابية بتنظيم ندوة للانتعاش الاقتصادي والنمو، مراهنا في هذا الاطار على القدرات الوطنية الهامة، سواء من حيث الثروات الباطنية أو الموارد البشرية والطاقة الشبانية الهائلة التي تدور في فلك الابتكار والتكنولوجيات الحديثة.
وانعكس التوجه الجديد بالإيجاب على السياسة الاقتصادية الجديدة التي أقيمت على حتمية الخروج من التبعية لريع المحروقات والنهوض بباقي القطاعات، من خلال التقليص من الاستيراد العشوائي وتشجيع الصناعات المحلية ومعها التصدير خارج المحروقات، وهو ما تكلل بتسجيل رقم قياسي بلغ 7 ملايير دولار من الصادرات خارج المحروقات في 2022، لأول مرة منذ الاستقلال، ويرتقب ان يتضعف بنهاية السنة الجارية وفقا للتقديرات المعلن عنها ليصل الى 13 مليار دولار، وتتجه الجزائر تدريجيا الى تحقيق 30 مليار دولار خارج المحروقات بنهاية سنة 2029 كما هو مخطط له.
وحتى النظرة إلى قطاع الطاقة، عرفت تحولا يستجيب للمعطيات الجديدة للسوق العالمية، والتي حملت السلطات على وضع استراتيجية شاملة لتطوير هذا القطاع وتكييفه مع التحولات العالمية، استطاعت من خلالها الحفاظ على مكانتها في السوق الإقليمية كممون أساسي لأوروبا، وترسيخها من خلال إدراج مصادر طاقوية جديدة والاعتماد أكثر على القدرات الوطنية في مجال الغاز الطبيعي والطاقات المتجددة.
ولهذا وضعت استراتيجيات تشمل تطوير المناجم عبر مشاريع مهيكلة كبرى بالشراكة مع الأجانب، كما تم وضع برنامج خاص لتطوير الطاقات المتجددة والجديدة ومنها الطاقة الكهروضوئية والهيدروجين الأخضر، ضمن مسعى يهدف إلى خفض الانبعاثات الكربونية استجابة لالتزامات الجزائر العالمية في مجال حماية المناخ.
وتعمل الحكومة حاليا على قدم وساق من أجل تطوير قطاعات استراتيجية ضمانا لأمنيها المائي والغذائي، وهو ما تجسد في اتخاذ جملة من التدابير لتطوير قطاع الفلاحة بكل شعبه وكذا مواجهة آثار التحولات المناخية التي تقف وراء ظاهرة الجفاف "المزمن"، كما تولي اهتماما كبيرا بمجال المؤسسات الناشئة والابتكار، الذي شهد تأطيرا لنشاطاته وتدابير تحفيزية غير مسبوقة.
وبالرغم من الأحداث المتسارعة على الصعيد الدولي منذ سنة 2020 مع انتشار وباء كورونا وما تبعه من تراجع في المؤشرات الاقتصادية العالمية، والتي زادتها الحرب بين روسيا وأوكرانيا شدة، ومؤخرا الأحداث الجارية في فلسطين، فإن السياسة التي انتهجها الرئيس تبون، بنيت على الدعم المتواصل للمواطنين، وهو ما انعكس على الإجراءات المتخذة في مواجهة كورونا والأموال الكبيرة المخصصة لدعم الفئات المتضررة، فضلا عن التدابير المتخذة مؤخرا لمواجهة ظاهرة التضخم وارتفاع اسعار بعض المواد، ولاسيما قرار رفع الاجور وخفض الضريبة الاجمالية على الدخل، وهو ما أدى إلى ارتفاع ميزانية النفقات في العام الجاري إلى مستوى قياسي.
ويعد الدعم الاجتماعي بالنسبة للرئيس تبون قاعدة لا يمكن الحياد عنها، وهو ما يعكسه الاستمرار في تخصيص 20 بالمائة من الميزانية الكلية للدعم المباشر وغير المباشر، بالرغم من التحفظات التي تعبر عنها المؤسسات المالية العالمية في كل مرة.