وضعه الرئيس في صميم الانشغالات

ملف الذاكرة.. لا تنازل ولامساومة

ملف الذاكرة.. لا تنازل ولامساومة
  • القراءات: 207 مرات
نوال جاوت نوال جاوت

❊إعادة تشكيل الذاكرة الوطنية وحمايتها.. تحد كبير ينبغي رفعه

❊عناية رئاسية ترتكز على تقدير المسؤولية الوطنية في حفظ إرث الأجيال

❊حرص على حماية الهوية وترسيخ المآثر

ما انفك رئيس الجمهورية السيد عبد المجيد تبون يؤكّد على الأهمية القصوى التي تولى لملف الذاكرة والتاريخ الوطني،  إذ يتصدّر الأولوية في برنامج الرئيس الحريص على صون الذاكرة وحماية الهوية وترسيخ المآثر والحفاظ على تاريخ الأمة، وجاءت قراراته المهمة، لتكرّس كثيرا من الإجراءات الداعمة للذاكرة الوطنية، كيف لا وهو الذي أقرّ الثامن ماي من كل سنة يوما وطنيا للذاكرة، مؤكّدا في رسالته بمناسبة الذكرى 79 لمجازر الثامن ماي1945،  أنّ ملف الذاكرة لا يتآكل بالتقادم أو التناسي ولا يقبل التنازل والمساومة، وسيبقى في “صميم انشغالاتنا” حتى تتحقّق معالجته معالجة موضوعية ومنصفة للحقيقة التاريخية.
أضاف السيد الرئيس أنّ عناية الدولة بمسألة الذاكرة، ترتكز على تقدير المسؤولية الوطنية في حفظ إرث الأجيال من أمجاد أسلافهم، و«تنبع من اعتزاز الأمة بماضيها المشرف.. ومن جسامة تضحيات الشعب في تاريخ الجزائر القديم والحديث لدحر الأطماع، وإبطال كيد الحاقدين الذين ما انفكوا يتوارثون نوايا النيل من وحدتها وقوتها.. ومازالت سلالاتهم إلى اليوم تتلطخ في وحل استهداف بلادنا”.

المصداقية والجدية مطلبان أساسيان

ملف الذاكرة، بالنسبة لرئيس الجمهورية لا يتآكل بالتقادم أو التناسي بفعل مرور السنوات، ولا يقبل التنازل والمساومة، وسيبقى في صميم الانشغالات حتى تتحقّق معالجته معالجة موضوعية، جريئة ومنصفة للحقيقة التاريخية،  مشيرا إلى أنّ المصداقية والجدية مطلبان أساسيان لاستكمال الإجراءات والمساعي المتعلقة بهذا الملف الدقيق والحسّاس، وزاد أنّ العمل على إعادة تشكيل الذاكرة الوطنية وحمايتها من التخريب والتحريف والضياع، يعدّ تحديا كبيرا ينبغي رفعه، لأنّ الذاكرة ليست مسألة معرفية عادية وفقط تتوقّف عند حدود العلم، بل “هي معالم وضاءة نسترشد بها طريقنا نحو المستقبل الأفضل لأمتنا ووطننا”.
وفي رسالته بمناسبة الاحتفال بالذكرى الثانية والستين لاسترجاع السيادة الوطنية، لفت رئيس الجمهورية إلى أنّ “الجزائر اليوم التي لا تفتأ تذكر بالمرجعية النوفمبرية وتقدر رمزية الاستقلال وعمق ذكراه، هي في الوقت نفسه ماضية بلا تردد في مسار الأخذ من هذا النبع الصافي، ضابطة كلّ خياراتها وقراراتها ومواقفها ومشاريعها وفق ما خطته ثورة نوفمبر الخالدة وما أفضت إليه من استقلال شهد العالم بأسره أنه افتك افتكاكا وقدمت على قربانه أغلى الأثمان”، مؤكّدا مواصلة التجنّد لحماية الوطن وصون وديعة الشهداء من أجل وضع لبنات أخرى في مسار تشييد صرح الجزائر.وخَلُص رئيس الجمهورية إلى التأكيد بأنّ ذكرى الاستقلال الوطني “تبعث فينا الهمّة والإدراك لمعنى أن يكون لك وطن بحجم ومكانة الجزائر، هذا الوطن العظيم الذي لم يخذله أبناؤه في أحلك ظروفه وكلّما استدعاهم لمهمة لبوا نداءه، هذا الوطن الذي بثّ فينا جميعا روح الإقبال عليه والامتثال لأحكامه كلّما كان الموعد دقيقا وحاسما لنكون جديرين بالانتماء إليه”.

ملف ذو قيمة معنوية

وأبى رئيس الجمهورية إلا أن يذكّر بالأبعاد المعنوية لنضال الشعب الجزائري وفق القيم النبيلة والمثل العليا المكرسة على مرّ السنين والعصور، حيث سعت الدولة بدورها على كافة المستويات لحماية ذاكرة الأمة، من خلال ترسيخ بيان أول نوفمبر 1954 في التعديل الدستوري الجديد، مع التأكيد على احترام رموز الثورة التحريرية وترقية كتابة التاريخ الوطني وتعليمه للناشئة وذلك تأكيدا للدور الاستراتيجي للذاكرة الوطنية في تنمية الشعور الوطني والحسّ المدني وتقوية روابط الانتماء والاعتزاز بأبطال الوطن.
ولطالما كان تثمين الذاكرة أحد الملفات ذات القيمة المعنوية المعتبرة لدى الجزائريين المتمسّكين بمطلب اعتراف فرنسا بالجرائم المرتكبة منذ أن وطئت أقدامها الجزائر، وذلك كخطوة لتصفية العلاقات الثنائية من الشوائب التي غذّتها اللوبيات الفرنسية التي مازالت تروّج لأطروحة “الجزائر فرنسية”، حيث حرص على نقل هذا المطلب الشعبي عبر رسائل مباشرة وصريحة وجّهها الرئيس تبون لدوائر القرار بباريس بخصوص هذا الملف، في عدّة مناسبات وتصريحات.
كما كانت الرسائل التي وجّهها الرئيس تبون إلى فرنسا واضحة عندما أكّد عدم التنازل عن معالجة ملف الذاكرة وربط مستقبل و«جودة” العلاقات الثنائية بـ«مراعاة التاريخ ومعالجة ملفات الذاكرة التي لا يمكن بأي حال أن يتم التنازل عنها مهما كانت المسوغات”، رغم تأكيده على أن الشعبين الجزائري والفرنسي “يتطلعان لتحقيق قفزة نوعية نحو مستقبل أفضل”، مقرا بأنّ شروط تطبيع العلاقات بين البلدين مرتبطة بطي الورشات المفتوحة كمواصلة استرجاع جماجم الشهداء، ملف المفقودين واسترجاع الأرشيف وتعويض ضحايا التفجيرات النووية في الصحراء الجزائرية. وقد اختصر المعالم المستقبلية للعلاقات الثنائية بالقول “إذا كان النظر إلى المستقبل الواعد يعتبر الحلقة الأهم في توطيد وتثمين أواصر العلاقة بين الأمم، فإن هذا المستقبل يجب أن يكون أساسه صلبا خاليا من أّي شوائب”.

عدمِ التنازل بأيّ شكل من الأشكال

في هذا الصدد، مرّت أربع سنوات على استرجاع الجزائر لجماجم رموز المقاومة الشعبية للاستعمار الفرنسي، بعد احتجازها لمدّة قرن ونصف قرن بمتحف التاريخ الطبيعي بباريس (فرنسا)، وهو حدث تاريخي لايزال راسخا في ذاكرة الجزائريين، أشرف عليه رئيس الجمهورية شخصيا، حيث كانت إعادة جماجم رموز المقاومة موضوع طلب رسمي تقدمت به الجزائر إلى فرنسا،  وطُرحت المسألة خلال مباحثات بين السلطات العليا للبلدين.
وقد أعطى الرئيس تبون هذه المسألة الأولوية في مسعى الحفاظ على الذاكرة الوطنية وصونها، وقد أعلن شخصيا عن إعادة رفات هؤلاء الأبطال في كلمة ألقاها خلال حفل رسمي نظم بمناسبة الاحتفال بالذكرى  58 لعيد الاستقلال والشباب، مؤكّدا عزم الدولة على إتمامِ عملية استرجاع باقي الرفات حتى “يلتئم شمل جميعِ الشهداء فوق الأرض التي أحبوها وضحوا من أجلها بأعز ما يملكون”.
وأضاف رئيس الجمهورية “أنّ ذلك لفي صميمِ واجباتنا المقدّسة في حماية أرواحِ الشهداء ورموزِ الثورة، وعدمِ التنازل بأيّ شكل من الأشكال عن أيّ جزء من تراثنا التاريخي والثقافي، وفي الوقت نفسه وحتى لا نعيش في الماضي فقط، فإنّ استذكار تاريخنا بكلّ تفاصيله، بمآسيه وأفراحه، بهدف حفظ الذاكرة الوطنية وتقييمِ حاضرِنا بمحاسنه ونقائصه، سيضمن لأبنائنا وأحفادنا بناء مستقبل زاهرٍ وآمن، بشخصية قوية تحترم مقومات الأمة، وقيمها وأخلاقها”.
ويحرص رئيس الجمهورية على الحفاظ على رابطة السلف بالخلف من خلال تثمين الذاكرة ونقلها لشباب الجزائر المستقلة، لتحصين الأمة وتثمين صلتها بوطنها حتى يتسنى لها بناء الجزائر الجديدة وتعزيز مسيرة التجديد الوطني والمبنية على قيم المصارحة والثقة والشفافية ومحاربة الفساد بكلّ أشكاله. ولقد أسّس الرئيس لقناعة ستتوارثها الأجيال الحالية، تتمثّل في إدراج ملف الذاكرة في رواق الشفافية والنزاهة والموضوعية، قاطعا الطريق أمام كلّ ما يمكن أن يمسّ بقدسية كفاحنا التحرّري.

التمحيص والدقة وصدّ محاولات التحريف

وفي انتظار استرجاع بقية الجماجم، تتمسّك الجزائر بمسألة فتح الأرشيف باعتبارها “جزءا لا يتجزأ من الذاكرة الوطنية”، حيث أشار الرئيس تبون، في هذا الصدد، إلى أنّ هناك أرشيفا يخصّ الدولة العثمانية وجدته فرنسا بالجزائر وأخذته، مطالبا إياها بإرجاعه إلى الجزائر، فضلا عن أرشيف آخر يخصّ فرنسا يتعلّق ببعض الأعراش والانتفاضات الشعبية. وكللّت مساعي الجزائر بدفع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى الإقرار بتسهيل الوصول إلى محتويات الأرشيف السري التي يزيد عمرها عن 50 عاما، خصوصا تلك المتعلقة بالثورة التحريرية، عملا بما أوصى به المؤرخ بنجامين ستورا في تقرير حول “مصالحة الذاكرة” بين البلدين أنجزه بطلب من الإليزيه.
ولعلّ من أبرز المكاسب التي تحققت لـ«الذاكرة الوطنية”، استحداث آلية أنشئت في إطار مشاورات سياسية على أعلى مستوى، وتتمثّل في ميلاد لجنة مشتركة، تتكون من مؤرّخين جزائريين وفرنسيين، تسند إليهم مهمة التعاطي مع ملف التاريخ، بما يتيحه لها التخصّص في مجال البحث التاريخي، إلى جانب التمرّس في التمحيص والدقة في التحري لتوضيح الحقائق، وتجنّب اللبس والنسيان، وحتى محاولات التحريف.
في هذا الشأن، كشفت اللجنة الجزائرية للتاريخ والذاكرة، عن اتفاقها مع نظيرتها الفرنسية على استرجاع مليوني وثيقة مرقمنة خاصة بالفترة الاستعمارية، فضلاً عن عدّة ممتلكات منهوبة، إضافة إلى 29 لفة و13 سجّلا أي ما يشكّل خمسة “أمتار لينيار” من الأرشيف المتبقي الخاص بالفترة العثمانية. وأتت هذه الخطوة تتويجاً لاجتماع اللجنة الجزائرية للتاريخ والذاكرة مع نظيرتها الفرنسية في الثاني والعشرين نوفمبر الماضي بمدينة قسنطينة، حيث جرى مناقشة ملفات الأرشيف والبيبلوغرافيا والكرونولوجيا والممتلكات المنهوبة.
وأشار بيان حمل توقيع المنسق الدكتور محمد لحسن زغيدي، إلى الاتفاق على مواصلة إنجاز بيبلوغرافيا مشتركة للأبحاث والمصادر المطبوعة والمخطوطة عن القرن التاسع عشر من أجل نشر ورقمنة وترجمة الأهم منها إلى العربية والفرنسية والعمل على استرجاع ما يمكن استعادته، كما ستتمّ مواصلة إنجاز كرونولوجيا الجرائم الاستعمارية خلال القرن التاسع عشر، إضافة إلى استرجاع كل الممتلكات التي ترمز إلى سيادة الدولة والخاصة بالأمير عبد القادر وقادة المقاومة، وكذلك الجماجم المتبقية ومواصلة التعرف على الرفات التي تعود إلى القرن التاسع عشر، مع إحصاء وجود مقابر الأسرى والسجناء الجزائريين ووضع قائمة إسمية.في المجال العلمي الأكاديمي، اتفقت اللجنتان على تنفيذ برنامج تبادل وتعاون علمي يشمل بعثات طلابية وبحثية جزائرية إلى فرنسا، وفرنسية إلى الجزائر للاطلاع على الأرشيف، إلى جانب رفع العراقيل الإدارية الفرنسية أمام الباحثين الجزائريين، وتنظيم فعاليات علمية مشتركة خلال السنة الجامعية 2024 - 2025. ومن بين المخرجات أيضا، فتح بوابة إلكترونية مشتركة خاصة بالفترة الاستعمارية 1830 - 1962 على أن تكون بدايتها القرن التاسع عشر.
كما تجلّت إرادة رئيس الجمهورية في الحفاظ على حبل التواصل بين الأجيال في قراره بإنشاء قناة “الذاكرة” باعتبارها “سدا منيعا في وجه محاولات طمسه أو تزويرِه وتشويه الثورة والمقاومة الشعبية والحركة الوطنية ورموزها”.

واجب وطني يمليه الوفاء

 لا شكّ في أنّ الإنجازات المحقّقة في مجال حماية الذاكرة الوطنية وصونها، تدعو للفخر والاعتزاز، بل هي برهان على ما ينبغي تثمينه من الجهود المبذولة لتطبيق تعليمات من رئيس الجمهورية الذي حرص منذ تقلّد سدة الحكم على جعل الذاكرة الوطنية في صلب اهتمامه، كونها بوصلة حقيقية، تمنحنا والأجيال المقبلة، خارطة طريق يتسنى لنا من خلالها استكمال بناء الجزائر وتحقيق ازدهارها الاقتصادي وإشعاعها الثقافي، وانطلاقا من مدرسة التاريخ وبطولات الشهداء، يواصل السيد الرئيس استنباط الرؤى وتجسيد البرامج عرفانا بتضحيات أولئك الذين قدموا النفس والنفيس للجزائر.
كلّ المنجزات الكبرى التي حقّقتها الجزائر الجديدة، تؤكّد أنّ التاريخ والذاكرة متوازيان مع جهود التغيير والتنمية، لهذا لم يتردّد الرئيس تبون في العناية بالملف شخصيا، وظلّ، في مختلف المناسبات، يدعو إلى الحفاظ على التاريخ ومنحه بعدا خاصا سواء تعلق الأمر بتخليد أبطال الثورة التحريرية، عرفانا بما قدموه، أو بجعل التاريخ الوطني مادة يومية في الوقع المعيش.الجزائر وهي تثمن ذاكرتها، فهي تحتفي بإنجازاتها، مثمّنة رمزية العرفان والاعتزاز بتاريخ بلد المليون ونصف المليون شهيد، خاصة مع تجديد رئيس الجمهورية، السيد عبد المجيد تبون، التزامه برعاية التاريخ والذاكرة الوطنية، حيث ما انفك يشدّد في شتى خرجاته الإعلامية على أنّ هذا المسعى “واجب وطني يمليه الوفاء لنضال وكفاح الشهداء الأبرار”.
في سياق هذه النظرة التي وضع معالمها السيد الرئيس، وارتكزت على التقدير والإجلال للمجاهدين كونهم صنعوا إلى جانب الشهداء ملحمة ثورية خالدة يتردّد صداها في كل أصقاع الدنيا، لا تمر مناسبة إلا وكانت سانحة للانحناء بفخر واعتزاز أمام نضال مجاهدين انتزعوا الاستقلال وأصبحوا في ذاكرة الشعب أبطالا، وهبوا حياتهم للوطن فأصبحوا الذاكرة التي تحمل الكرامة والبطولة، فهم “حرّاس لأمانة الشهداء ورسالة نوفمبر الخالدة” مثلما أكّد عليه الرئيس تبون، ومن الضروري تعهّدهم بما يستحقون من عناية وتكريم في جزائر تتجه نحو تكريس ثقافة العرفان وتمتين اللحمة الوطنية وتقوية وتحصين الجبهة الداخلية في عالم مفتوح على الاضطراب.